في وقت تتسع فيه رقعة التجارة غير الرسمية في الجزائر بشكل غير مسبوق، خصوصًا عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، فتحت الحكومة ملفًا ظلّ مغلقًا لسنوات، وهو الضرائب على الأنشطة الربحية غير المعلنة التي تتم خارج أي إطار تنظيمي.
وبهذا تكون السلطات قد أعلنت عمليًا بداية “الرقابة الجبائية الرقمية”، التي ستُحدث بلا شك جدلًا واسعًا في أوساط الشباب، وروّاد الأعمال الصغار، وحتى المتعاملين العاديين في السوق.
القرار الصادر في الجريدة الرسمية الذي اتُخذ بشكل مشترك بين وزارتي المالية والتجارة الداخلية، يستند إلى المادة 115 من قانون المالية لسنة 2022، ويتعلق بتحديد طبيعة الأنشطة الربحية الاعتيادية والمتكررة التي يقوم بها الأفراد دون امتلاك سجل تجاري.
وبموجب هذا الإجراء، يمكن الآن إخضاع أي فرد يحقق أرباحًا عبر معاملات تجارية متكررة (3 مرات أو أكثر في السنة) إلى الرقابة الجبائية، حتى لو لم يكن يملك شركة أو سجلًا تجاريًا.
وتشمل هذه الأنشطة البيع على مواقع التواصل، والتجارة الإلكترونية غير المهيكلة، أو تقديم خدمات رقمية مدفوعة.
الإجراءات تشمل:
القرار أثار جدلً واسعًا بين من اعتبره محاولة جادة لإخضاع الاقتصاد الموازي للمراقبة، ومن رأى فيه تهديدًا مباشرًا لمشاريع الشباب الصغيرة التي انطلقت من الصفر على الإنترنت.
وفي هذا السياق، أكد الخبير الاقتصادي والمالي سليمان ناصر، في حديث لأوراس أن الهدف الرئيسي من القرار يتمثل في مكافحة تبييض الأموال والحد من السوق الموازية، التي مثل وفقًا لتصريحات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، والذي تبلغ قيمته حاليا “حوالي 90 مليار دولار”.
وأضاف ناصر أن الاقتصاد الموازي موجود في كل دول العالم، لكنه لا يتجاوز عادة 10 إلى 15 بالمئة من الحجم الكلي، بينما يمثل في الجزائر أكثر من 40 بالمئة، وهذا ما يشكل تهديدًا حقيقيًا للاستقرار المالي.
ولفت الخبير أن “النوايا من القرار سليمة، لكن لا جدوى له” وذلك في ظل ضعف الثقة في النظام المصرفي.
كما أشار بالقول: “المواطنون يمتنعون أساسًا عن إيداع أموالهم في البنوك بسبب فقدان الثقة، خصوصًا بعد أزمة بنك الخليفة، وما خلفه من ضياع لمدخرات المواطنين التي لم تُسترجع حتى اليوم”.
وهذا ما سيجعل للإجراء المتخذ نتيجة عكسية، حيث يزيد من عزوف المواطنين عن التعامل مع البنوك والمراكز البريدية، مما يُضرّ بالاقتصاد الوطني أكثر مما يُفيد الخزينة، حسب المتحدث ذاته.
ومن جهة أخرى، يرى الخبير الاقتصادي والمالي جلول سلامة في حديثه لأوراس أن هذا القرار لا علاقة له بريادة الأعمال، بل يندرج ضمن ما وصفه بـ”خطة تنظيمية قديمة جديدة” تهدف إلى تحسين تحصيل الضرائب.
وأضاف سلامة أن هذا الإجراء يمثل خناقا إضافيا على التدفقات النقدية غير المعلنة أو غير المصَرّح بها، ويستهدف وسيلة الدفع الأكثر شيوعًا في السوق الجزائرية.
كما أبرزمحدث أوراس أن المستفيد الأول من القرار هو الخزينة العمومية، لأن الغرض الأساسي منه هو إدراج العمليات غير النظامية تحت أعين الرقابة.
وأكد الخبير الاقتصادي الذي تحدث إلى “أوراس” أن هذا الإجراء لا يقدم أي تحفيز للاستثمار أو التنويع الاقتصادي، بل يمثل أداة رقابية صرفة.
وفي سياق متصل، أعرب سليمان ناصر عن استغرابه من تناقض الإجراءات الحكومية، مشيرًا إلى أن الدولة نفسها تقدم إعفاءات جمركية وضريبية هامة لفائدة المشاريع الصغيرة والمؤسسات الناشئة.
وقال المتحدث ذاته أنه من غير المنطقي إخضاع مبالغ صغيرة جدًا للمساءلة الجبائية، خاصة في ظل تدهور قيمة الدينار وارتفاع نسب التضخم.
واقترح ناصر وضع سقف مالي محدد (مثلاً 100 مليون سنتيم سنويًا) كمؤشر للتمييز بين النشاط التجاري النظامي القابل للضريبة، والمداخيل البسيطة التي تُعد أشبه بمبادرات فردية أو مشاريع ناشئة.
كما طالب بضرورة التفريق بين بائع يروج لمنتجات بسيطة على فيسبوك، وبين من يُدير متجرًا رقميًا يُجني منه الملايين دون رقابة أو تصريح.
وقال الخبير الاقتصادي في هذا السياق، “إذا كانت الأرباح محدودة، فيجب معاملتها مثل المشاريع الناشئة المعفاة، أما إذا تجاوزت مداخيل معينة، فمن الطبيعي أن تُفرض عليها الضريبة طبقًا لقانون التجارة الإلكترونية لسنة 2018، الذي يُلزم التاجر الإلكتروني بالحصول على سجل تجاري والامتثال للقوانين.”
وبين من يرى في القرار خطوة ضرورية للسيطرة على السوق الفوضوية وتنظيم التجارة الإلكترونية، ومن يعتبره تهديدًا مباشرًا لمشاريع الشباب، يبقى الرهان الحقيقي هو بناء منظومة متوازنة تجمع بين الرقابة والتحفيز، وبين محاربة التهرب الضريبي ودعم الابتكار وريادة الأعمال.
فهل ستكون هذه الإجراءات خطوة أولى نحو اقتصاد رقمي منظّم؟ أم أنها بداية لمرحلة من التضييق قد تُعيق طموحات جيل بأكمله؟