خطف واغتصاب وقتل وتنكيل بالجثث عناوين أصبحت تتصدر الصحافة الجزائرية في الفترة الأخيرة، وجرائم تهز المجتمع الجزائري الذي لا يزال يٌعدّ من المجتمعات المحافظة التي ترفض الاعتراف والإفصاح عن تعرض أبنائها للتحرش الجنسي أو الاغتصاب.
الفساد السياسي سبب الجرائم
شهدت الجزائر في الفترة الأخيرة الكثير من التغيرات الاجتماعية والسياسية، وطغت للواجهة قضايا محاربة الفساد التي كان أبطالها رجال السياسة في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
ويقول مختصون إن الجرائم ظاهرة اجتماعية بامتياز، ما يعني أن أصولها موجودة في المجتمع قبل وجودها عند الأفراد وفي الميكانزمات الاجتماعية.
وحمّل بروفيسور علم الاجتماع زوبيري حسين مؤسسات التنشئة الاجتماعية في الجزائر الممثلة في الأسرة والمدرسة والمسجد والشارع كل الجرائم التي تحدث فيه، بسبب تراجع دورها وفشلها في تلقين الفرد القيم الاجتماعية.
واعتبر البروفيسور أن تراجع النظام السياسي عن دوره زاد من حدة الجرائم في المجتمع، وقال زوبيري “إن المنظومة السياسية ولّدت لدى الفرد مجموعة من السلوكيات السلبية على خلفية تفشي الفساد”.
من جهة أخرى أكد المتحدث ذاته أن الفرد الجزائري دائم المطالبة بالحقوق دون أن يفكر أن لديه واجبات، والتي تولدت حسبه من الفساد السياسي الذي شهدته البلاد في الآونة الأخيرة.
وأضاف أن وتيرة الإجرام في الـ 20 سنة الأخيرة ارتفعت وتنوعت في أشكالها وأساليبها وأدواتها، وارتبطت بشكل وطيد بفساد النظام السياسي التي ظهر أثره في المنظومة الثقافية والاجتماعية.
ومن جهة أخرى، رفض الطبيب النفساني مسعود بن حليمة إرجاع ارتفاع الجرائم في المجتمع الجزائري إلى الحياة السياسية المتردية في البلاد، ولا إلى الوضع الأمني الذي مرت به البلاد في وقت سابق، متسائلا هل ستوفر الدولة 45 مليون شرطي لأمن المواطنين؟.
دور المساجد؟
المؤسسات الاجتماعية تراجع دورها بشكل كبير في الآونة الأخيرة، فالمساجد تراجع دورها التوعوي والتربوي، وسُجلت بعض القضايا الأخلاقية ارتكبها أئمة، وقيمة المعلم تراجعت و”أصبحنا نتحدث عن المعلم الذي يبحث عن الأجر” وفق البروفيسور زوبيري.
واتهم زوبيري النظام الفاسد بكسر كل المرجعيات الدينية والثقافية والتعليمية، مؤكدا أنه انتهج سياسة اللاعقاب، ما جعل الفرد الجزائري في عزلة.
الأسرة منحرفة!
سعت الجزائر في الفترة الأخيرة إلى سّن العديد من القوانين من أجل حماية الطفل، خاصة بعد التقرير الأسود الذي أعلن عنه المجلس الدولي لحقوق الأطفال سنة 2012، وأعطى تقييما مفصلا للحكومة الجزائرية يتضمن 99 ملاحظة وتوصية.
ووضعت الجزائر منذ 2013 العديد من القوانين، منها مخطط الإنذار والتبليغ، وعدّلت في قانون العقوبات سنة 2014، وشرّعت قانون حماية الطفل في 2015.
هذه الترسانة القانونية اعتبرها رئيس الشبكة الجزائرية للدفاع عن حقوق الطفل “ندى” عبد الرحمان عرعار لم تحم الطفل الجزائري من الجرائم التي يتعرض لها.
وقال عبد الرحمان عرعار في اتصال مع أوراس “إن الوضع السيئ الذي يعيشه الطفل في الجزائر راجع إلى المنظومة الاجتماعية الغائبة رغم ما تم سنه من قوانين”.
وأضاف عرعار أن المشكل في توسّع رقعة الجريمة موجود داخل الأسرة الجزائرية ولدى الشباب.
ولام مُحدث أوراس السلطة السابقة في البلاد التي كانت تعالج النتائج وليس الأسباب، ما أدى إلى عدم التكفل بالضحايا والجناة على حد سواء، موضحا أن الكثير من الجناة عادوا لارتكاب أفعالهم الشنيعة بعد خروجهم من السجن، بسبب غياب التأهيل.
وطالب عرعار بإصلاحات معمقة في منظومة الأسرة، من الناحية القانونية والتقاضي والعنف الممارس داخلها، خاصة الاعتداءات الجنسية التي تمثل حسبه السبب الرئيسي في كل النزاعات.
وشدّد عرعار على ضرورة إصلاح مخطط اليقظة والتبليغ ورفع التجميد على عقوبة الاعدام.
وفي السياق ذاته يرى الطبيب النفسي مسعود بن حليمة أن الأسرة هي السبب الأول في الجرائم التي هزت المجتمع، مؤكدا وقوفه على الكثير من الحالات التي تم فيها شراء الحبوب المهلوسة من قبل أحد الأبوين لأولادهم.
وطالب بن حليمة بسحب الأطفال من الأسر التي لا تعتني بأطفالها مثل ما هو مطبق في بعض الدول الأوربية.
المنظومة القانونية
وسط ارتفاع عديد الأصوات المطالبة بتغيير المنظومة القانونية في البلاد من أجل حماية الفرد وحياته، لم يطبق شيء، وفق ما ذهب إليه زوبيري حسين الذي يرى أن عدم وجود قانون رادع، وعدم تطبيق الإعدام جعل المجرمين يتمادون في أفعالهم، مستدلا بما حدث للفتاة شيماء صاحبة الـ 19 ربيعا التي خُطفت واغتُصبت وقُتلت ونُكل بجثتها من طرف مسبوق قضايا اعتدى عليها سنة 2016.
المجرم صاحب شأن
وفي مفارقة غريبة تحدثُ باستمرار في المجتمع الجزائري، هي إعطاء قيمة كبيرة للمجرمين والتعامل معهم بنوع من الوقار.
ففي الأحياء الشعبية يقول المختص في علم الاجتماع زوبيري إنه حين عودة مجرم من السجن بعد قضائه عقوبته أو الإفراج عنه بالعفو يُستقبل بالأحضان والقُبل وكأنه قدم خدمة كبيرة للمجتمع.
ومن جهة أخرى أضاف المتحدث ذاته أن في الجزائر لقب “لييزوم” يُطلق على المجرمين وأصحاب السوابق العدلية في انقلاب واضح على المنظومة القيّمية في البلاد.
وعاد مٌحدث أوراس إلى سبعينيات القرن الماضي مؤكدا أن المسجون وقتها كان له دور اقتصادي، حيث كان يدخل في القوى العاملة بإرساله إلى الصحراء من أجل العمل، عكس ما هو حاصل حاليا، حيث أصبح عبئ اقتصادي على الدولة الجزائرية يضاف إلى عبئهم الاجتماعي، ووجدت الدولة نفسها مجبرة على بناء السجون بأموال الضرائب بالإضافة إلى التكفل بهم، ليخرج فيما بعد مؤهلا لجرائم أكبر بعد انخراطه مع مجرمين آخرين ليشكل معهم عصابات كبيرة، حيث قال زوبيري:”السجن لا يؤدي دوره في ردع المسجونين”.
الجزائر عمدت إلى سن مجموعة من القوانين للحد من الجرائم المنتشرة في المجتمع على غرار قانون محاربة العصابات في الأحياء، التي يراها البروفيسور زوبيري حسين مهمة جدا لكن غير كافية، مشددا على ضرورة إصلاح المنظومة الاجتماعية.
الاختطاف.. مؤامرة ضد الجزائر
تبني نظرية المؤامرة التي طغت على تفسير عديد الأحداث في المرحلة الأخيرة وصلت إلى الجرائم المرتكبة في حق البراءة، ورجّح الخبير الأمني أحمد كروش وجود مخطط كبير ضد الجزائر يستهدف استقرارها الأمني ويقف وراء هذه الجرائم، مؤكدا في اتصال مع أوراس أن هذه الظاهرة تتكرر مع اقتراب كل استحقاق بهدف إرباك السلطة.
ويعتقد كروش أن الهدف من هذه الجرائم هو دفع الشعب إلى عصيان الدولة والتمرّد عليها من خلال زرع الشك بينه وبين السلطة والأجهزة الأمنية، حتى يحدث “الطلاق البائن” بينهما وتُفقد الثقة بشكل كلي.
كما رجّح المتحدث ذاته أن تكون هناك أجهزة أجنبية تقف وراء هذه الأفعال من أجل زرع الفتنة وضرب الاستقرار، مثل ما حدث في ولاية غرداية قبل سنوات.
واعتبر كروش أن تكرار حوادث الخطف بالطريقة نفسها يؤكد على وجود أطراف خارجية وراءها، قائلا: “إنه من غير المعقول أن يتغيّر الشاب الجزائري بهذه السرعة” معلننا عن بداية “موسم الخطف”.
وعاد محدثنا إلى سلسلة خطف الأطفال المتزامنة مع موعد الانتخابات الرئاسية الماضية، رغم كل العقوبات التي سنتها السلطة لمحاربة الظاهرة، مؤكدا أنها تراجعت بشكل ملحوظ بعد فترة من الزمن.
الجزائريون أصحاء نفسيا
رفض الطبيب النفساني مسعود بن حليمة إرجاع ارتفاع الجرائم في المجتمع الجزائري إلى المشاكل النفسية التي قيل أن الجزائريين يعانون منها، بل تعود حسبه إلى أسباب تربوية وأسرية بحتة، قائلا: “الحياة تستمر بالتعايش والضغوطات التي تولّد الجرائم هي من الخرافات”، نافيا وجود ثقافة اجتماعية نفسية في الجزائر.
ومن جهة أخرى قال الطبيب النفساني “إن هناك قلق من الأمور الحياتية التي من المستحيل أن تؤدي إلى الانحرافات والجرائم”، معتقدا أن المجرمين في الجزائر يتمتعون “بذكاء كبير”.
ومن جهة أخرى قال محدثنا إن الجزائريين لا يفرّقون بين الطب العقلي والنفسي، ومن واجب الدولة نشر هذه الثقافة، وتسهيل فتح العيادات النفسية على الأطباء.