الجزائر أصبحت في موقع اقتدار حقيقي غير خافٍ، بما يمكنها من ممارسة دبلوماسية طاقوية نشطة، فعالة ومؤثرة ومعزّزة للأمن الطاقوي الوطني والجواري والإقليمي والعالمي، ودبلوماسية خادمة للمصالح المشتركة ومحققة للمنافع ولا تغفل عن البعد الإنساني فيها وأيضا عن حق الشعوب في الرفاه والعيش الكريم، والطاقة أساس ذلك، وهذا ما نلمسه في تعاطي الجزائر مع الحاجات الطاقوية للأشقاء (ليبيا، تونس، لبنان) ومقاسمة خبراتها العالية معهم (النيجر، موريتانيا،…). هذه الدبلوماسية الطاقوية النشطة التي تمارسها الجزائر من خلال “دبلوماسية الممرات الطاقوية الجنوبية”.
بداية بالاضطلاع بتعزيز وتمتين ممارسة الدبلوماسية الطاقوية التقليدية، ألا وهي “دبلوماسية الغاز الطبيعي”، حيث أن قراءتنا لمشهد الطاقة المستقبلي خلال الـ (26 سنة) القادمة، خصوصا طبيعة التحول الذي ستشهده منظومة الطاقة الأوروبية عموما، وفي سوق الغاز خصوصا (إنتاجا واستهلاكا واستيرادا)، حيث من المتوقع أن يتحول الطلب الأوروبي على الغاز من (480 مليار متر مكعب) في سنة 2022 إلى من (300 مليار متر مكعب) في سنة 2050، سيقود الرباعي (ألمانيا، إيطاليا، فرنسا، إسبانيا) خفضًا في استهلاك الغاز الطبيعي بحجم قدره (180 مليار متر مكعب).
لكن هذا الخفض سيكون مدفوع بانخفاض في إنتاج الغاز الطبيعي داخل دول الاتحاد الأوروبي بـ (125 مليار متر مكعب)، وبخفض في الواردات بمقدار (106 مليار متر مكعب). وبنزول حاد في صادرات الغاز النرويجية لدول الاتحاد الأوروبي من (85 مليار متر مكعب) في سنة 2030 إلى (30 مليار متر مكعب) في سنة 2050، مع تحوّل المملكة المتحدة إلى دولة مستوردة للغاز الطبيعي بحجم (47 مليار متر مكعب) في آفاق 2050.
هذا الوضع الطاقوي يضع الجزائر أمام الخيار التاريخي لتكون مستقبلا الممون الأساسي للاتحاد الأوروبي بالغاز الطبيعي.
وضمن هذا التقدير والمنظور تهدف استراتيجية الاستثمار التي وضعتها الشركة الوطنية سوناطراك إلى زيادة إنتاج الغاز الطبيعي إلى مستوى 200 مليار متر مكعب سنويا خلال السنوات الخمس المقبلة، وبأن يصل حجم الصادرات السنوية إلى 100 مليار متر مكعب، تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، الذي أمر بزيادة إنتاج الغاز الطبيعي”. حسبما كشف عنه وزير الطاقة والمناجم السد محمد عرقاب، يوم الأحد 26 ماي 2024. خلال ندوة صحفية عقدت على هامش أشغال الملتقى الوطني لمديري التوزيع بمجمع سونلغاز ومديري الطاقة والمناجم على مستوى الولايات. قال الرئيس المدير العام لمجمع سوناطراك رشيد حشيشي، إن سوناطراك تعتمد إستراتجية على المدى القصير والمتوسط والبعيد، ويتم المصادقة عليها من قبل مجلس الشركة و الجمعية العامة.
وخلال نزول الرئيس المدير العام لمجمع سوناطراك، السيد رشيد حشيشي ضيفا على التلفزيون الجزائري، ليلة الأربعاء 14 أوت 2024، أوضح أنّ سوناطراك تعتمد إستراتجية على المدى القصير والمتوسط والبعيد، ويتمّ المصادقة عليها من قبل مجلس الشركة والجمعية العامة، والتي من خلالها يتطلع المجمع الطاقوي للاستمرار في إنتاج 160 مليار متر مكعب من الغاز الأوّلي في آفاق عامي 2060-2065.
كما أن الجزائر ستعزز من قدراتها في سوق الغاز الدولية من خلال ممارسة دبلوماسية الأنابيب والغاز الطبيعي المسال بكل اقتدار، فلطالما عرف تاريخ الغاز والنفط في شمال إفريقيا والشرق الأوسط خطوط الأنابيب العابرة البحر الأبيض المتوسط كمحركات حقيقية للتقارب الدبلوماسي.
لذلك ستكون ممارسة “دبلوماسية أنابيب الغاز” حاضرة بقوة ضمن جهود التعاون الاستراتيجي الجزائري-الإيطالي في إطار ”خطة ماتي”، ومن بين العناصر المجسدة لذلك إعادة بعث مشروع خط الغاز “غالسي” الذي سيكون بخصائصه التقنية الجديدة المنشأة التي ستسمح للجزائر، في فترة قصيرة مقبلة، من تعزيز صادراتها من الغاز الطبيعي إضافة إلى تصدير الهيدروجين والأمونيا والكهرباء، مع الحرص على استكمال مشروع خط أنابيب الغاز (نيجيريا-النيجر-الجزائر) العابرة للصحراء (TSGP) أو المعروف كذلك بتسمية “نيغال”، هذا المشروع الهام المسجل من بين الـ(16) مشروع مُهَيْكَل ومُهَيْكِل للبنية المندمجة الإفريقية، وهو أيضا مشروع مدعوم سياسيا من طرف مبادرة أبطال البنية التحتية الرئاسية للنيباد (PICI) في إطار برنامج تطوير البنية التحتية في أفريقيا (PIDA).
وأيضا تنشيط “دبلوماسية الهيدروجين” لتعزيز حضورنا في سوق الهيدروجين الطاقوي المستقبلي، خصوصا السوق الأوروبية التي يعتبر ساستها بأن الجزائر ستكون “قطب الهيدروحين الأخضر” الأمثل المستقبلي، لما تتوفر عليه الجزائر من مؤهلات بنيوية قائمة، وليست افتراضية أو نظرية، ستضمن الإمدادات المستقبلية لهم من الهيدروجين بأقل كلفة، وهذا الإدراك القوي يعدّ ناتجا منطقيا بحكم القرب الجغرافي للجزائر وتوافرها على بنية تحتية متينة للغاز الطبيعي، التي بإمكانها أن تكون دعامة قوية جاهزة مسرّعة لنقل الهيدروجين وإحلاله سريعا في بنية الطاقة الأوروبية، إضافة إلى وفرة المياه والكمون الشمسي الهائل على امتداد جغرافيا الجزائر، دون استحضار بقية الكمونات الطاقوية الأخرى على غرار طاقة الرياح وغيرها، حقيقة نمتلك في الجزائر أكبر كمون شمسي في العالم، لكنه لدينا كذلك كمونات عالية القدرة وهامة جدا خصوصا من طاقة الرياح.
إذا كان شركاؤنا يرغبون في خفض التلوث الصناعي لديهم في منظومتهم الصناعية الشرهة للطاقة الحرارية، خصوصا الناتجة من محطات الفحم، ويخططون لاستبدال ذلك بالهيدروجين “صفر تلوث”، فالجزائر مؤهلة ومستعدة لإمدادهم بالحجوم التي يفصحون بها.
لذلك إذا كان تطوير إحلال الهيدروجين لديهم بطيئا، فالجزائر مستعدة لبناء خط “أنبوب غالسي” لضخ حوالي مليون طن من الهيدروجين، أما إن سارت وتيرة إحلال الهيدروجين في الصناعة الأوروبية وفي عديد التطبيقات المخطط لها بوتيرة أسرع، فالجزائر مستعدة لضخ حوالي أربعة (4) ملايين طن من الهيدروجين عبر خط “أنابيب أنريكو ماتي” نحو إيطاليا مع إمكانية تعزيزه ببنى تحتية جديدة ملائمة وكافية.
وعلى ذكر ايطاليا، يمكننا العودة إلى تاريخ يوم الإثنين 23 جانفي 2023، وخلال المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، مع رئيسة وزراء إيطاليا، السيدة جيورجيا ميلوني، أين أعلنت السيدة ميلوني بأن الجزائر تعد المفتاح والبوابة الأساسية لتنفيذ “خطة ماتي” لتطوير التعاون بين إيطاليا وإفريقيا عبر البحر الأبيض المتوسط.
إيطاليا تقترح ” خطة ماتي” على الدول الإفريقية كحل جيوسياسي مشترك مع أوروبا. تعرف عليه. pic.twitter.com/DigrtdNj63
— أوراس | Awras (@AwrasMedia) January 30, 2024
كما عبّرت بوضوح عن طموح بلادها إيطاليا بأن تصبح “مركزًا للطاقة الأوروبية”، انطلاقا من التقديرات للتداعيات الطاقوية الصعبة، ولأجل مواجهة أزمة الطاقة الكبيرة التي تمر بها أوروبا.
وأمام ذلك يمكن للجزائر أن تصبح الدولة الرائدة في إنتاج وإمدادات الطاقة وبوابة إفريقيا بكل تأكيد، ولما لا عالميا، وضمن هذا المنظور فإن إيطاليا هي حتماً بوابة نمو وتدفق هذه الطاقة وإمداداتها نحو أوروبا.
كما أشارت السيدة ميلوني إلى “خطة ماتي” لتطوير التعاون بين إيطاليا وإفريقيا. مع التأكيد على أنه في البداية سيتم التركيز على منطقة البحر الأبيض المتوسط. “شمال أفريقيا هي الأولوية، ولا سيما الجزائر“، الشريك التجاري الأول لإيطاليا في القارة و”الشريك الأساسي والأكثر استقرارا والأكثر استراتيجية”، وفي تلك المناسبة.
من جانبه أوضح السيد عبد المجيد تبون، أنه تم التوقيع على اتفاقية لدراسة وإنشاء خط أنابيب جديد للغاز “سينقل الغاز والهيدروجين والأمونيا وحتى الكهرباء”. وأن هذا المشروع “سيجعل من إيطاليا مركزا للطاقة الأوروبية”.
كما أن الجزائر، في إطار ممارسة “دبلوماسية الكهرباء”، مستعدة لإمداد شركاءنا الأوروبيين بالطاقة الكهربائية، بإمدادات يمكنها أن تتجاوز الـ(50 تيرا واط ساعي) في المرحلة الأولى، وبالإمكان أن تتجاوز الـ(90 تيرا واط ساعي) لاحقا حين دخول محطات الطاقة الشمسية حيز الخدمة مع استكمال تنفيذ البرنامج الوطني (15000 ميغاواط) من الطاقات المتجددة، ضمن منطق إدراكي للجزائر واعي بما وراء الرغبة الأوروبية هذه، وهو الجانب المتمثل في خفض التلوث في منظومة الكهرباء الأوروبية من خلال اللجوء لاستيراد “الكهرباء الخضراء” بدلا من توليدها في محطات الفحم والغاز، وبما يترتب عن ذلك من انبعاثات كثيفة وضغوطات بيئية.
لذلك الجزائر متنبهة للأمر وتعمل على بناء توافقات مع الشركاء الأوروبيين في إطار متين لـ”دبلوماسية الكهرباء” تأتي مدعومة بـ”دبلوماسية التشبيك لشبكة الكهرباء”، بدايةً بتطوير الربط البيني الوطني للشبكة الوطنية للكهرباء بين جزئيها الشمالي والجنوبي، باستثمار ما يقارب 3 مليار دولار.
هذا المشروع الذي يكتسي أهمية حيوية للبلد ولشركائنا في شمال ضفة حوض المتوسط، وأيضا لجيراننا وشركائنا في جنوب ضفة الصحراء (منطقة الساحل وجنوبه) والتي تمثل العمق الاستراتيجي للجزائر، هذا المشروع الذي يُعتبر استجابة منطقية ومنظومية لرهانات استغلال كموناتنا الهائلة والمعتبرة من الطاقات المتجددة، على الخصوص الكمون الشمسي في صحرائنا الكبرى، فاستغلال هذه الخيرات المتدفقة والمتاحة على مدار السنة بحاجة إلى شبكة كهربائية متينة تمتد من عمق صحرائنا حتى أقصى نقطة في شمال الوطن، بما يتيح تعزيز إمدادات الكهرباء المحلية بشكل كبير.
كما سيفتح للجزائر آفاقًا جديدة واعدة لتصدير الكهرباء النظيفة نحو الضفتين الأوروبية والإفريقية جنوب صحرائنا الكبرى تجسيدا لروح التضامن والتعاون مع جيراننا من البلدان الإفريقية التواقة إلى التنمية وتحقيق الرفاه لشعوبها.
وهذا الطموح المشروع لدول القارة الإفريقية بحاجة إلى التزود بالكهرباء النظيفة والموثوقة، والجزائر لديها كلّ المؤهلات للاضطلاع بذلك.
سأبرز هنا مثالا بسيطًا على توزان مسافات الإمداد من عمق صحرائنا، فعلى سبيل المثال نجد المسافة بين “عين صالح” بالجزائر، و”نيامي” النيجرية تبلغ 1520 كلم، وتمبكتو المالية 1285 كلم، ونواقشوط الموريتانية 2144 كم، ونحو توريانوفا الإيطالية عبر تونس هي 2244 كلم.
إضافة إلى “دبلوماسية الطاقات المتجددة”، وهنا ينبغي التذكير بأن قاعدة تنشيط هذه الدبلوماسية أضحت قائمة مع إطلاق المرحلة الأولى من البرنامج الوطني للطاقات المتجددة في النصف الأول من هذه السنة 2024، مع مباشرة إنجاز سلسلة المحطات الأولى للطاقة الشمسية الكهروضوئية بقدرة إجمالية تقدر بـ(3000 ميغاواط) لهذه المرحلة الأولى فقط.
إضافة إلى مباشرة عملية تجهيز منجم غار اجبيلات للحديد بتندوف بمحطة شمسية كهروضوئية بقدرة (200 ميغاواط). لذلك يمكننا الآن الحديث عن هذه القفزة النوعية التي سترفع من قدرات الطاقات المتجددة في الجزائر من (600,9 ميغاواط) مركبة في نهاية 2023 إلى (3800 ميغاواط) مع نهاية سنة 2025 وبداية سنة 2026، أي بتضاعف في قدرات الطاقات المتجددة بأزيد من ستة (6) مرات، حيث ستشهد سنة 2025 بدء تشغيل عدد معتبر من هذه المحطات.
هذه القفزة الكبيرة تأتي بعد أن حققت الجزائر، في مجال الطاقات المتجددة على مدى الخمس (5) سنوات الأخيرة (2019-2023)، إضافات بوتيرة متزايدة في سعة إحلال الطاقات المتجددة بمقدار (61,4 ميغاواط)، وإن كانت الوتيرة بطيئة. فقد بلغت سعة الطاقات المتجددة المركبة في الجزائر خلال الفترة الممتدة بين عامي 2019 و2023، وفقا للتقرير الأخير لمحافظة الطاقات المتجددة والفعاليات الطاقوية المتعلق بالطاقات المتجددة في الجزائر لسنة 2023، انتقالا من 539,5 ميجاواط في عام 2019 كسعة إجمالية للطاقات المتجددة بما فيها الكهرومائية، لتقفز فوق عتبة الـ (600 ميغاواط) في سنة 2023، لتحقق سعة (600,9 ميغاواط).
كما أن “دبلوماسية المعادن الأساسية والاستراتيجية الحرجة للانتقال الطاقوي” و”دبلوماسية الأتربة النادرة” قد أطلقت الجزائر العنان لها، ففي الخمس سنوات الماضية (2020-2024) جرى بعث وإطلاق عدد من المشاريع الكبرى العملاقة في القطاع المنجمي، ذات العلاقة بالمعادن الأساسية للانتقال الطاقوي (الحديد، الفوسفات، الزنك، الليثيوم، …)، وهي المعادن التي يتضاعف الطلب العالمي عليها بشكل أسي ضمن متطلبات تجسيد مسعى الانتقال الطاقوي العالمي، خصوصا في صناعة معدات الطاقات المتجددة والمنخفضة الكربون، وصناعة “بطاريات الليثيوم أيون” و”بطاريات الليثيوم-حديد-فوسفات (LFP)”، و”عنفات طاقة الرياح” والصباغات الخاصة وطلاءات الزنك التي تستخدم لحماية الألواح الشمسية وتوربينات الرياح من عوامل المناخ المحيط وتمنع عنها الصدأ.
وهنا نجد بعث مشاريع هامة من التاء إلى التاء (من تندوف إلى تبسة إلى تالة حمزة ببجاية). فهذا منجم غارا جبيلات الذي جرى بعثه في سنة 2022، بعد 70 سنة من اكتشافه، وبعد كل حالة التردد في تثويره بعد الاستقلال، هذا المنجم الذي يعد أحد أكبر وأهم مناجم الحديد في العالم، باحتياطي من خام الحديد يصل (3,5 مليار طن)، وحاليا يجري نشاط التطوير والاستغلال في الجهة الغربية منه والتي تحتوي لوحدها على (1,7 مليار طن).
وأيضا بعث منجم الزنك في سنة 2022، بعد أن كان هذا المشروع حبيس الأدراج لمدة 17 سنة. هذا المنجم الذي يعد ثالث أكبر منجم في العالم للزنك والرصاص بعد أستراليا (64 مليون طن) والصين (44 مليون طن)، هذا المكمن الجزائري بتالة حمزة بأميزور في ولاية بجابة المتعاقد حوله مع الشريك الأسترالي (هو ثالث احتياطي عالمي قابل للاستغلال بـ 34 مليون طن، بل يُصنف كثاني احتياطي عالمي من الزنك إذا احتسبنا الاحتياطيات الكلية له المقدرة بـ54 مليون طن)، والتعاقد كان مع هذا الشريك الذي تحوز دولته على أكبر احتياطي عالمي من الزنك.
دون أن نغفل على تطوير مورد استراتيجي عالمي، ألا وهو الفوسفات الذي تحوز الجزائر على ثالث احتياطي عالمي (2,8 مليار طن) منه بعد كل الصحراء الغربية والصين، والتعاقد مع مجمع صيني لتطوير مشروع الفوسفات المدمج الممتد من بلاد الحدبة في تبسة إلى واد الكباريت بسوق أهراس و إلى حجر السود بسكيكدة وصولا إلى ميناء عنابة.
هذه المشاريع الكبرى الثلاثة التي ستخلق ما يصل إلى (100 ألف منصب عمل) مباشر وغير مباشر في مرحلتي الإنجاز والإنتاج.
وفي الختام، نُعرج على “دبلوماسية المناخ”، بما له علاقة مباشرة بـ”دبلوماسية الطاقة”، حيث تستهدف الصناعة الطاقوية الجزائرية “تصفير انبعاثات الميثان” في آفاق 2030، مع اعتماد مقاربة بيئية ومناخية مُدمجة للاحتجاز الطبيعي لثاني أكسيد الكربون، وهنا نستحضر مشروع توسعة السد الأخضر بالجزائر على مساحة مليون هكتار إضافية، بما سيسمح بغرس قرابة المليار شجرة، والمشروع المرافق الذي يعتزم مجمع سوناطراك تنفيذه من خلال برنامج طموح للاحتجاز الطبيعي للكربون، بدعم من المديرية العامة للغابات، يستهدف غرس 420 مليون شجرة على مساحة (520 ألف) هكتار في الجنوب الجزائري وفي منطقة الهضاب، سيُنفذ على مدار 10 سنوات، بقيمة واحد مليار دولار، والذي سيسمح بامتصاص ما متوسطه (من 10 إلى 15 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا).
وإذا كانت مستويات الاحترار العالمي التي وصلتها حالة المناخ جعلت القبة الحرارية، في الصائفة الماضية 2023، تتمركز فوق مجالنا الجغرافي تماما، إضافة إلى بروز أول معالم الانزياح المناخي، خلال هذه السنة 2024 بشكل تفاجأ له الكثيرون، مع صعود الحزام المناخي الاستوائي نحو منطقة الصحراء الكبرى، وأبرز ظواهر ذلك حالة الهطل المطري الغزير والذي يفوق المعدلات الطبيعية بعشرات (10) الأضعاف، وأيضا حالة الرطوبة الاستثنائية التي بدأت تشهدها الأجواء الصحراوية وهي المعروفة بحالة الجفاف التام، الأمر الذي سيؤثر مستقبلا على منظومة الطاقات المتجددة. إضافة إلى حالة زحف المناخ الصحراوي على منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط.
هذا التحوّل المناخي البنيوي يحتم علينا هندسة مقاربة مناخية بديلة، كوننا منطقة متضررة بشدة من حالة اعتلال واختلال المناخ، على الرغم من أن الجزائر من المساهمين الفاعلين في الرؤية المناخية الأممية، ومن أكبر الملتزمين بمخرجات قممها، كما أوفت الجزائر بالتزاماتها المناخية الأممية بجهدها الخاص قبل الآجال المحددة.
لكن آلة التدمير المناخي لم تتوقف، لذلك يتعين على الجزائر مستقبلا الاضطلاع بهندسة “الدبلوماسية المناخية”، وأن تكون عبرها القائد التاريخي لرؤية مناخية عادلة وواقعية وناجعة، تحشد حولها مواقف غالبية الدول في العالم خصوصا المتضررة تاريخيا والواقعة تحت ضرر تمدد التلويث المتأتي من الغير، وأساسا الدول الصناعية الكبرى، من خلال بناء تكتلات إقليمية، وقارية، ودولية مُمَانِعة للمنظورات المناخية الأحادية الجانب، والرافضة لأي استخدام للتغير المناخي كمبرر لإنفاذ إجراءات تعيق الاستثمارات في مشاريع الغاز الطبيعي والطاقات التقليدية وغير التقليدية، أو استحداث أي وسائل للتمييز الاعتباطي أو أية قيود مقنعة تخالف بشكل مباشر قواعد التجارة الدولية، أو إدخال إجراءات تحجب الوصول إلى التكنولوجيات العالية في صناعة الطاقة والغاز، مثلما أوصت بذلك القمة السابعة لرؤساء دول وحكومات منتدى الدول المصدرة للغاز، التي احتضنتها الجزائر العاصمة من 29 فيفري إلى 2 مارس 2024.
مع إيلاء الأهمية اللازمة للتعاون والإسهام المؤثر مع المؤسسات العالمية التي تعنى بوضع المعايير واعتمادها دوليا وهندسة منظوماتها، والانخراط بفعالية ضمن الهيئات الأممية والشبكات الدولية الأممية المختصة في مناقشة وبناء الخلفيات المؤثرة في تشكيل الجوانب المعيارية بغرض التأثير في مضامين مرافعاتها وتوصياتها، خصوصا وأن العديد منها فيما يتعلق بالطاقة الخضراء والمناخ والبيئة والتنمية المستدامة تحوّلت إلى “قيم معيارية” تصطبغ أحيانا بصبغة “القداسة” وتتأسس عليها مشاريع معولمة وأعمال مؤثرة في توازن العلاقات الدولية والدبلوماسية.