span>اليمين المتطرف على أعتاب الإليزيه.. كيف ساهم ماكرون في وصوله؟ فيصل إزدارن

اليمين المتطرف على أعتاب الإليزيه.. كيف ساهم ماكرون في وصوله؟

عندما اعتلى إيمانويل ماكرون كرسي الرئاسة في الإليزيه سنة 2017، تعهد بصد اليمين المتطرف و محاربة كل نزعات العنصرية وكراهية الأجانب بما فيهم العرب والأفارقة، وهو الذي هزم زعيمة حزب التجمع القومي المتطرف (Le rassemblement national) مارين لوبان (Marine Le Pen) في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية الأخيرة، ولكن بعد مرور 5 سنوات من ولايته، لم تتقهقر العنصرية، ولم تندثر الأحزاب اليمينية المتطرفة، ولكن ازدادت قوةً وعنجهيةً أكثر من أي وقت مضى.

وأثناء الحملة الانتخابية الحالية تطور المشهد السياسي نحو الأسوأ، وهو يعج بالمترشحين المتطرفين وأخرون ازدادوا تطرفا أو اعتنقوا أطروحات اليمين المتطرف، أملا منهم حشد الأصوات. ولكن كيف وصلت الوضعية إلى هذا الحد من انحطاط في الخطاب الانتخابي الذي عزف عن التطرق إلى الإشكاليات الحقيقية التي تؤرق بال المواطن الفرنسي من قدرة شرائية، قضية الشغل والحد من الفوارق الاجتماعية في مجالات شتى؟ ما الذي جعل وسائل إعلامية نافذة تفضل مترشحين متطرفين عن أولئك الذين يدافعون عن التعددية الثقافية والتسامح؟

أطروحات اليمين المتطرف

كما ذكرنا آنفا، فقد برزت أطروحات خلال عهدة ماكرون الرئاسية، بعدما كانت مدحورة ولم يجرؤ أحد على تمريرها، اعتلت خطابات المشهد الإعلامي حول الجذور المسيحية-اليهودية لفرنسا وتمجيدها على حساب أطياف ثقافية ودينية أخرى، والتي اعتبرت هجينة ودخيلة للمجتمع الفرنسي، بالإضافة إلى مصطلح “الاستبدال الكبير” والذي يعد نظرية لمؤامرة كاملة الأركان جسدها رونو كامو (Renaud Camus) وهو كاتب من اليمين المتطرف، وبيعت مئات الآلاف من النسخ من كتابه، أين يشرح خطر الغزو الخارجي واستبدال الشعب الفرنسي بأقوام أخرى.

ثم بعدها أخذت هذه الأطروحة أبعادا إيديولوجية وسياسية كبيرة حتى اعتمدها سياسيون من اليمين المتطرف أو التطرف اليميني أمثال إريك زمور من حزب “إعادة الغزو” (Reconquête) و فاليري بيكريس (Valérie Pecresse) عن حزب “الجمهوريون” (Les Républicains) التي استساغت الأمر.

تعتبر قضية ازدراء الإسلام كعنصر هام في خطاب اليمين المتطرف الذي يريد تشويه صورته وحظره في الفضاء العام، ومن ثم وضع الجالية المسلمة في خانة المتهم، من خلال التشريع لحظر ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، فرض سياسة الاستيعاب الثقافي على النمط الفرنسي لكل من يتجنس بالجنسية الفرنسية، والجالية المسلمة هي المستهدفة كي تتخلى عن عقائدها وثقافتها. هذه الإيديولوجية مستوحاة من الحقبة الاستعمارية، حيث البرامج التي قادتها الإدارة الكولونيالية لمحو شخصية شعوب المستعمرات.

تهافت المتطرفون

في كل حملة انتخابية يتهافت السياسيون لإغراء الناخبين لحشد أكبر قدر ممكن من الأصوات، وتيارات اليمين المتطرف لا تخرج عن القاعدة، ولكن تتهافت على تشويه الآخر في عيون الفرنسيين، لينصبون أنفسهم حماة الهوية الفرنسية التي تصارع الأخطار والاندثار. يذكروننا بدون كيشوط (Don Quichote De la Mancha) الذي يصارع النواعير الهوائية، وتساعدهم في ذلك مجموعة من القنوات الإعلامية وبعض الصحف المحسوبة على التيار اليميني واليمين المتطرف في التغاضي عن مشاكل الفرنسيين الحقيقية والحديث باستمرار ممل عن النزعة الانفصالية الإسلاموية، الحجاب كرمز لخضوع المرأة، تسليط الضوء على ما يسمى بظاهرة أسلمة المجتمع الفرنسي بالقوة، مما أدى إلى التشريع في هذا المجال، بحيث قامت وزارة الداخلية تحت ضغط هذه الجماعات بشن حملة حل جمعيات إسلامية، وتشميع مساجد (آخرها محاولة غلق مسجد مدينة بيساك)، في إطار مكافحة التطرف والنزعات الانفصالية الإسلاموية. علما أن هذه الحملة قد لاقت انتقادات واسعة من الأوساط الجمعوية والأهلية من أطياف عدة، وتتهم الحكومة بمحاولات تفكيك النسيج الجمعوي الإسلامي، ففي ببعض الأحيان ترى هذه الجمعيات أن السبب الذي تتحجج به وزارة الداخلية لغلق المساجد والمدارس العربية هو التطرف، ولكن يتبين فيما بعد أن السبب تقني يتعلق بعيوب تخص النظافة أو الترتيبات الأمنية التي لا تستدعي البتة لغلقها.

قد ينقلب السحر على ساحره

من المناورات السياسية المعروفة في الأداء السياسي الفرنسي، فبركة الخصم، فكل مترشح منتهية عهدته، يسخر كل موارده لخلق خصم على مقاسه، وبالتالي ولمدة أكثر من عشرين سنة أضحى اليمين المتطرف الخصم المفصل للمترشح الرئيسي، فينفرد به في الدور الثاني، ولكن هذه المرة، السياق مختلف والمعطيات مختلفة أيضا، فماكرون يعول على منافسته المعتادة مارين لوبان عن حزب التجمع القومي، ولكي لا تتعدى حدودها سارعت أوساط سياسية ومالية إلى خلق منافس آخر ليس للمترشح ماكرون ولكن للمترشحة لوبان، والغرض من ذلك تشتيت الوعاء الانتخابي لليمين المتطرف، ونجحت العملية إلى حد ما، بحيث أن إريك زمور قد أحدث نزيفا تنظيميا داخل حزب مارين لوبان.

التحاليل تتكهن أن يصل كل من إيمانويل ماكرون و مارين لوبان إلى الدور الثاني، فتتدخل وسائل الإعلام للتحريض على انتخاب جمهوري لسد الطريق أمام اليمين المتطرف، فيفوز ماكرون بكل أريحية، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فتنفجر في وجهه فضائح مالية و ذسياسية و ذعلى رأسها قضية مكتب الدراسات ماكينسي (Mckinsey) التي تشتد حدتها يوما بعد يوم، و ذصعود المترشح جون-لوك ميلونشون (Jean-Luc Mélenchon) عن حزب “فرنسا المتمردة” (La France Insoumise) في استطلاعات الرأي في الآونة الأخيرة، إذ بفضل حملة انتخابية مبدعة وبرنامج انتخابي متزن حسب رأي الباحثين، تمكن من تقليص الهوة بينه وبين مارين لوبان، مما دفع بعض المحللين إلى طرح إمكانية وصوله إلى الدور الثاني وإحداث المفاجأة.

الديموقراطية الفرنسية على محك علاقاتها الدولية

في حال وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في فرنسا في الـ24 من هذا الشهر، سيكون لا محالة انتكاسة لما بناه أجيال واسعة من السياسيين حيال الأوربي، وإبقاء المستعمرات السابقة في فلك الهيمنة الفرنسية، خصوصا و ن فرنسا تتولى حاليا رئاسة التتحاد الأوربي الدوية إلى غاية شهر جوان. فموقف اليمين المتطرف من فكرة الاتحاد معروفة، فهي تعارض وبشدة البقاء في الاتحاد بصيغته الحالية، ما يقوض السيادة القومية لفرنسا في نظر اليمين المتطرف، وتشديد المراقبة على الحدود مما يقوض فضاء شنغن ووأده إلى الأبد.

بالنسبة لمكانة فرنسا الدولية، سيؤدي ذلك إلى تقهقر موقع فرنسا في المحافل الدولية وإضعاف هيمنتها في القارة السمراء، علما أن هناك جيل من الأفارقة الذين يطالبون فرنسا بالعدول عن نزعتها الكولونيالية وإعادة تأسيس علاقاتها مع القارة الإفريقية، وهذا ما يمكن اعتباره أكبر التحديات التي سيواجهها اليمين المتطرف في حال وصوله لسدة الحكم.

بعد خمس سنوات من رئاسة ماكرون، لم تستطع عهدته من صد اليمين المتطرف الذي تخطى الأخلاق والقانون ليشيد أخاديد من العنصرية والكراهية بين الفرنسيين، ويسحن خطابه بالأكاذيب والخوف من الآخر، متجاهلا القضايا الحقيقية التي تهم الفرنسيين ويدخلهم في متاهات من التفاهات حول حظر الذبح الإسلامي، أو خطورة شهادات العذرية، والمواضيع ذات الصلة كثيرة.

بقلم: د. إزدارن فيصل، باحث في علم الاجتماع السياسي – باريس

فيصل إزدارن

دكتور باحث في علم الاجتماع السياسي - باريس

تابع آخر الأخبار عبر غوغل نيوز

شاركنا رأيك