ما كان متوقعا، قد حدث، فاز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية على مرشحة الديموقراطيين كامالا هاريس، إذ تحصل ترمب لحد اللحظة على 312 صوتا في المجمع الانتخابي، مقابل 226 صوتا لهاريس، بفارق سحيق يبلغ أربعة ملايين صوت، ومحققا الأغلبية في ست من سبع ولايات متأرجحة (Swing States)، بما فيها ولاية ميشيغان ذات الماضي الديموقراطي.
لقد تبخرت أحلام كامالا هاريس على وقع الإعلان للترشح المتأخر، والتسيير الكارثي للحرب في الشرق الأوسط بالإضافة إلى الخرق الكارثي في الميزانية الفيدرالية التي أحدثها الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا في حربها مع روسيا، من دون أن ننسى تجاهل المترشحة لمعضلة الهجرة، وإسقاطها من برنامجها الانتخابي.
لقد كان الوعاء الانتخابي للمترشح ترمب هذه المرة، متنوعا وثريا من حيث الأصول الاجتماعية والإثنية والدينية، ففي ميشغان، صوتت نسبة معتبرة من العرب والمسلمين لصالحه، بعدما ضاقوا ذرعا من مواقف الديموقراطيين من حرب الإبادة التي تطال غزة منذ أكثر من عام، بحيث أن الإدارة الأمريكية لم تضغط بالقدر الكافي على حليفها الاستراتيجي الكيان الصهيوني سواء لإيقاف الحرب أو حتى الجلوس على طاولة المفاوضات، بل بالعكس، ثمة شواهد ومؤشرات توحي بأن إدارة بايدن فقدت كل قوة ردعها أمام كابنيت الحرب الصهيوني، مخافة تلاشي الدعم المالي والإعلامي في الانتخابات، لكن كل ذلك لم يشفع للمترشح الديموقراطي.
لقد استطاع ترمب هذه المرة الاقتراب من ترجيح كفة الوعاء الانتخابي الهيسباني لصالحه، إذ أنه تحصل على 45 بالمائة من أصوات الناخبين من أصول هيسبانية، وهو ما يعتبر انتصارا كبيرا بالنسبة للجمهوريين، وهذا راجع بالأساس، إلى انعدام الرؤية لدى الديموقراطيين وترددهم الفادح في موضوع الهجرة .أما بالنسبة للأقلية الأفرو-أمريكية، فلا تزال محتشمة، رغم أنها ارتفعت لصالح ترمب في حدود 12 بالمائة.
ثمة قضايا كبرى ليست بيد الرئيس الأمريكي وحده، فهناك عدة إدارات وهياكل ترمي بثقلها لبلورة الاستراتيجية العسكرية الدفاعية، إدارة الأزمات للدولية، وإدارة الصراعات الكبرى، فاللوبيات تلقي بكل ثقلها في الضغط على دواليب الطغمة الحاكمة، بالإضافة لما اصطلح عليه بالمركب السياسي-الصناعي (Complexe militaro-industriel)، كما سماه الرئيس الراحل آيزنهاور.
ما يجب التأكيد عليه، هو أن العهدة الثانية لدونالد ترمب، لن تكون كالأولى، فالنتائج المشجعة ستعطيه القوة الكافية للضغط بكل ما أوتي من قوة سياسية وإعلامية وهيكلية لخلط أكثر لأوراق الذين صنعوا هذه الفوضى الدولية، سواء في أوكرانيا والشرق الأوسط.
سيكون الشعب الأوكراني كبش فداء التغييرات الميدانية التي ستعرفها الحرب الأوكرانية، لتتحول كل الجهود إلى إدارة الصراع الأمريكي الصيني، ومن ثمة، ستكون القارة الإفريقية حلبة من حلبات الصراع بين هاذين العملاقين، دون أن تكون هناك سياسة أمريكية تنموية للقارة السمراء.
حالة الاستقطاب الحد التي ستنجر عن الاصلاحات التي سيبادرها ترمب ابتداء من 20 جانفي المقبل، يوم استلامه مقاليد البيت الأبيض، سيكثف من محاولات التكتل الدولي والاقليمي، كما ذهب إلى ذلك وضاح خنفر، فالمقاربة السياسية لترمب مبنية على الهيمنة والإخضاع.
في آخر تقرير لها حول الجزائر ومستقبل علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، أصدرت مصلحة البحوث للكونغرس (Congressional research service)، تقريرا في 24 جويلية 2024، تتطرق فيه إلى مكامن الضعف والقوة في العلاقات بين البلدين، فالتقرير يرى: “أن النفوذ السياسي الأميركي محدود بسبب الاعتماد الذاتي الاقتصادي للجزائر والعلاقات الدافئة مع الصين وروسيا، والعلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة والمنافس الإقليمي المغرب. وقد رحب المسؤولون الجزائريون بزيادة التواصل الأميركي وأعربوا عن اهتمامهم بتنويع شراكات البلاد، لكن الاختلافات السياسية الصارخة لا تزال قائمة بشأن أوكرانيا وغزة وقضايا أخرى”.
يرى التقرير أيضا أن التوترات بين الجزائر والمغرب قد أعاقت التعاون الإقليمي لفترة طويلة. تستضيف الجزائر جبهة البوليساريو، التي تسعى إلى استقلال الصحراء الغربية، وهي منطقة تطالب بها المغرب. أشاد المسؤولون الجزائريون بجهود إدارة بايدن لإحياء محادثات الأمم المتحدة بشأن المنطقة، بعد أن شجبوا اعتراف الرئيس ترامب بمطالبة المغرب بالسيادة، علما أنه في هذا المضمار، جاء قرار باعتراف ضمني أمريكي بدعم الحل المغربي بالحكم الذاتي في الصحراء الغربية في ظرف عصيب ومفاجئ، بحيث أنه جاء عشية الانتخابات الأمريكية لسنة 2020، كمبادرة آخر دقيقة من جانب المترشح دونالد ترمب لحشد الدعم الصهيوني. ولا يزال الغموض الاستراتيجي الأمريكي يكتنف هذه القضية طيلة حكم بايدن.
في حوار مع قناة الجزيرة، صرح رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون أن الجزائر لجأت إلى قضع العلاقات مع المغرب لتفادي الحرب، فقرار التطبيع الذي اتخذته المغرب يشكل خطرا داهما للأمن القومي الجزائري، ويرى التقرير أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى مشاركتها مع الجزائر إلى توسيع التعاون الأمني والروابط الاقتصادية والعلاقات التعليمية والثقافية.
ويضيف التقرير: “انخرطت إدارة بايدن في التواصل رفيع المستوى مع الجزائر في سياق الحرب بين روسيا وأوكرانيا وولاية الجزائر في مجلس الأمن. زار وزير الخارجية أنتوني بلينكين الجزائر في عام 2022 واستضاف وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف في واشنطن العاصمة في أغسطس 2023. كما زار الجنرال مايكل لانجلي، الذي يقود القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، الجزائر مرتين، وكان آخرها في يوليو 2024”.
وبحسب ما ورد تحدث مدير وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز مع رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق شنقريحة في سبتمبر 2023. واستضافت وزارة الخارجية جلسة للحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والجزائر في أكتوبر وعقد البلدان حوارًا عسكريًا مشتركًا في ديسمبر، حسب التقرير نفسه.
و في دراسة، صدرت عن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى (Washington Institute for Near East Policy) بعنوان “ماذا يعني فوز آخر لتبون بالنسبة للعلاقات الأمريكية الجزائرية؟” للباحثتين سابينا هينبرج وسهير مديني، أن العلاقات بين البلدين تحتاج إلى تعميق وتطوير أكثر، وأن المعوقات كثيرة ومعقدة، بالنظر إلى عدم انخراط الجزائر لصالح الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الغربي في صراعها مع كل من روسيا والصين.
وخلصت الدراسة إلى أنه “في ظل رئاسة ثانية لتبون، من المرجح أن تسعى الجزائر إلى مواصلة تعميق انخراطها مع الولايات المتحدة وتموضعها كمورد رئيسي للطاقة لأوروبا. وعلى المدى القصير، سيكون هذا مكسباً لكل من واشنطن والجزائر، لا سيما في مجالات مثل التعاون في مكافحة الإرهاب”.
أما على المدى الطويل، توقعت الدراسة ” استمرار القضايا نفسها التي تحدت الشراكة لعقود من الزمن، وليس فقط افتقار الجزائر إلى الانفتاح السياسي والاقتصادي، ولكن أيضاً عدم رغبتها في الاعتراف بأن الأعمال المزعزعة للاستقرار التي تقوم بها روسيا في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل لها تأثير سلبي في الداخل وعلى المنطقة بأكملها”.
ويرى بروس ريدل، وهو من كبار الباحثين في معهد بروكينغز لسياسات الشرق الأوسط (Brookings Institute) أن المقاربة البراغماتية البحتة للرئيس ترمب، وقربه المفرط من دول الخليج، قد تؤثر سلبا على العلاقات الثنائية، قائلاً: “قد نجحوا بالفعل في إقناع الرئيس بدعم حركة الجنرال خليفة حفتر في ليبيا، التي تقع على الحدود مع الجزائر. وهم يحاولون الآن تعزيز قوة الجيش في السودان”.
في ظل هذه المعطيات والتحديات التي تتعاظم من حين لآخر، قد تلجأ الجزائر إلى تعزيز شراكتها الاستراتيجية مع شركائها التقليديين، بما في ذلك روسيا والصين، بالإضافة إلى تفعيل تكتلات إقليمية والانخراط فيها، خاصة على الصعيد الإفريقي، لتعزيز مكانتها ودعم موقفها، لمواجهة معضلة التطبيع مع الكيان الصهيوني وإفشال حضوره في القارة الإفريقية، بالإضافة إلى تعزيز الأمن القومي تحسبا لما يحاك على الحدود الغربية والجنوبية للجزائر.