أثار المرسوم الرئاسي رقم 24-218 المؤرخ في 27 جوان 2024 المحدد لشروط وكيفيات إحالة المستخدمين العسكريين العاملين والمتعاقدين على وضعية انتداب لدى الإدارات المدنية العمومية ردود أفعال متفاوتة في الداخل والخارج، ولتوضيح الرؤية أضع بين أيدي المتابعين الكرام هذه المساهمة المتواضعة.
غداة الاستقلال، وفي إطار مساعي مواجهة الوضع الاستعجالي الناجم عن شغور مناصب التسيير والمسؤوليات في كثير من القطاعات الإدارية والاقتصادية، وعن عدم الثقة في بعض المسؤولين والمسيرين الذين تركهم الاستعمار وراءهم من دفعة لاكوست promotion lacoste))، استعانت الدولة بأفراد الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني من أجل ضمان سير بعض المرافق والإدارات العمومية المدنية وحفظ أمنها .
وبتاريخ 31 أكتوبر 1969 صدر الأمر رقم 69- 89 المتضمن القانون الأساسي لسلك ضباط الجيش، والأمر 69-90 المتضمن القانون الأساسي لسلك صف ضباط الجيش، وقد أقر هذان الأمران مبدأ انتداب أفراد الجيش الوطني الشعبي لدى الإدارات المدنية أو المؤسسات العمومية أو الجماعات المحلية أو المنظمات الوطنية والدولية (المواد من 14 إلى 18 من الأمر الأول).
استمر الوضع خاضعا لأحكام هذا القانون طيلة 37 سنة أي إلى غاية 28 فبراير 2006، تاريخ صدور الأمر رقم 06-02، المتضمن القانون الأساسي العام للمستخدمين العسكريين والذي كرس وثبت الانتداب في مادته الـ83 التي نصت على أن الوضعيات القانونية للعسكري هي:
في حين عرْفت المادة 87 الانتداب بأنه هو وضعية العسكري العامل أو المتعاقد الموضوع خارج الأسلاك المكونة للجيش الوطني الشعبي لشغل منصب عمل في الإدارة المدنية العمومية أو لدى هيئة دولية أو في إطار القيام بمهمة تعاون مع دولة أخرى.
وحددت المادة 88 مدة الانتداب بسنة واحدة قابلة للتجديد 3 مرات على الأكثر.
وبتاريخ 08 جويلية 2024 صدرت الجريدة الرسمية رقم 46 وتضمنت المرسوم الرئاسي رقم 24-218 المؤرخ في 27 جوان 2024، الذي يحدد شروط وكيفيات إحالة المستخدمين العسكريين العاملين والمتعاقدين على وضعية انتداب لدى الإدارات المدنية العمومية المنصوص عليها في المادتين 87 و 88 من الأمر 06-02 المنوه به أعلاه.
جاء هذا المرسوم الرئاسي ليوضح كيفيات وآليات انتداب أفراد الجيش الوطني الشعبي، ولم يأت بأي جديد على ما جاء في القانون الذي تضمنه الأمر 06-02 الصادر سنة 2006، بل أضاف تضييقا، وهو تحديد الانتداب بمرة واحدة طيلة المسار المهني للعسكري (المادة 5 من المرسوم).
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو لماذا يثار هذا النقاش على التفاصيل التنفيذية التي تضمنها المرسوم، وليس على المبدأ الذي أسس له قانون 1969 وثبته وكرسه القانون الصادر سنة 2006؟
ألم ينتبه القوم للقانون الذي صدر منذ 13 سنة، أم تغاضوا عنه آنذاك؟.
ثم، ما هو الجديد الذي جاء به المرسوم الرئاسي مقارنة بمضمون القانون حتى يثير المخاوف لدى البعض؟
كنت سأتفهم الوضع لو تمت معارضة القاعدة القانونية التي جاء بها الأمر الصادر سنة 2006، وهذا حق يكفله الدستور لكل مواطن، غير أنني لا أذكر أنني سمعت أي تحفظ لا من طرف الأشخاص ولا من طرف الهيئات ولا الأحزاب على هذا القانون منذ صدوره إلى اليوم.
وللتعرف على بعض النماذج الأجنبية أشير فقط إلى القانون الفرنسي الذي يكرس هذا المبدأ وبشكل أوسع من القانون الجزائري، بحيث يجيز انتداب العسكريين لدى الإدارات والمؤسسات العمومية والخاصة ولدى الجماعات المحلية والجمعيات والهيئات الوطنية والدولية.
ويبقى السؤال الجوهري هو هل يمنح المرسوم الرئاسي الجديد صلاحيات إضافية للمؤسسة العسكرية عن طريق انتداب أفرادها لدى الهيئات المدنية مقارنة بما كان عليه الوضع سابقا، وهو ما أثار مخاوف البعض؟ الجواب المباشر هو (لا).
وبالتالي، فلا مجال في نظري لإثارة مثل هذه المخاوف ما دمنا كنا قابلين بالوضع السابق ومتعايشين معه في أريحية تامة منذ الاستقلال، ومرورا بقانون 1969 ثم بقانون 2006 الذي جاء المرسوم الرئاسي الأخير لتوضيح الإجراءات التنفيذية لمادتيه 87 و 88، ولم يدخل عليه أي تعديل (وهذا ليس من صلاحياته بطبيعة الحال).
أما رفض مبدأ انتداب أفراد الجيش لدى الهيئات المدنية العمومية فهو بالتأكيد حق مكفول لمن أراد ذلك، غير أن مجاله هو معارضة الأصل، أي القانون وليس المرسوم الذي يبقى هو الفرع.
ويبقى التساؤل مطروحا عن عدم تطرق المتحفظين على المرسوم لانتداب أفراد الجيش لدى الهيئات الدولية المعتمد والمقبول من طرف كل الدول العالم ولم يوضحوا إن كانوا معه أو ضده.
حفظ الله الجزائر وهو من وراء القصد.
سياسي جزائري تولى مناصب إدارية وسياسية وبرلمانية، كما عيّن وزيرا للصناعة ووزيرا للتجارة ووزيرا للعمل والتشغيل والضمان الاجتماعي