في السابع من أكتوبر 2023، هزت عملية “طوفان الأقصى” أركان الكيان الصهيوني بشكل لم يسبق له مثيل منذ عقود. هذه العملية النوعية التي نفذتها حركة المقاومة الفلسطينية لم تقتصر آثارها على الجانب العسكري والأمني فحسب، بل امتدت لتضرب عمق المجتمع الإسرائيلي، مفجرة أزمة ثقة حادة بين المواطنين وقيادتهم السياسية والعسكرية.
ومن أبرز تجليات هذه الأزمة ظاهرة الهجرة العكسية غير المسبوقة التي شهدتها دولة الاحتلال في الأشهر التالية للعملية. فوفقاً لتقارير إسرائيلية، غادر ما يقرب من نصف مليون إسرائيلي البلاد خلال الأشهر الستة الأولى من الحرب، في موجة نزوح جماعي تثير تساؤلات جدية حول مستقبل المشروع الصهيوني برمته.
هذه الظاهرة، التي تعرف في الأوساط الإسرائيلية باسم “يورديم” أو “الهابطين”، ليست وليدة اللحظة. فقد كانت تختمر منذ سنوات، مدفوعة بعوامل متعددة منها الأوضاع الاقتصادية الصعبة وصعود اليمين المتطرف وتراجع الحريات. لكن عملية طوفان الأقصى كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت برميل البارود، حيث كشفت عن هشاشة الأمن الإسرائيلي وزعزعت بشكل جذري ثقة المواطنين في قدرة دولتهم على حمايتهم.
وفي هذا السياق، كشفت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” في جوان 2024 أن نصف مليون إسرائيلي غادروا بالفعل دولة الاحتلال في الأشهر الستة الأولى من الحرب ولم يعودوا. وأكدت الصحيفة نقلاً عن القناة الـ12 الإسرائيلية الإخبارية أن عدد الإسرائيليين الذين غادروا بشكل دائم بعد طوفان الأقصى ارتفع بشكل كبير في الشهر الأول من الحرب، ثم استمر بوتيرة أقل في الأشهر التالية.
الأرقام المفزعة لم تتوقف عند هذا الحد. فقد أظهرت بيانات هيئة الإحصاء الإسرائيلية أن عدد المهاجرين خلال الشهر الأول لـ”طوفان الأقصى” كان أكثر بنسبة 285% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022. وأكدت القناة الـ12 في تغطيتها أن الأدلة تشير إلى أن غالبية من فروا من دولة الاحتلال من نوفمبر 2023 حتى مارس 2024 لا ينوون العودة مرة أخرى، وأنهم بدؤوا بالفعل الانتقال التام بحياتهم إلى خارج فلسطين المحتلة.
لكن ما يثير الاهتمام حقاً هو أن دوافع الهجرة لا تقتصر على الخوف من المقاومة الفلسطينية وحدها. فقد عبر إسرائيليون عدة عن قلقهم العميق من اتجاه مجتمعهم نحو التطرف الديني وتراجع الحريات. يقول أليكس غولدمان، وهو مدير تنفيذي في مجال التكنولوجيا حصل مؤخراً على الجنسية البولندية: “من يخيفونني حقاً هم اليهود المتدينون المتطرفون من أقصى اليمين الذين استولوا على إسرائيل وجعلونا نسأل متى قد نحتاج إلى الفرار”.
ويضيف غولدمان: “زعماء أقصى اليمين المتطرف استولوا على الدولة وأصبحوا يحرضون على النشطاء اليساريين في مناخ خانق لحرية التعبير لدرجة جعلتني أحذف منشورات ناقدة كتبتها في السابق على فيسبوك”. هذه الشهادة تعكس حالة من الإحباط العميق والشعور بالاغتراب لدى شريحة واسعة من الإسرائيليين المحتلين الذين يرون أن دولتهم تنزلق نحو نموذج متطرف بعيد عن الديمقراطية التي طالما تغنوا بها.
وفي استطلاع للرأي أجراه معهد “سياسة الشعب اليهودي” في يوليو 2024، تبين أن ربع اليهود في دولة الاحتلال و40% من فلسطينيي الداخل أصبحوا يفكرون في الهجرة بمجرد أن تتاح لهم الفرصة. هذه الأرقام المذهلة تعكس انخفاضاً حاداً في ثقة المواطنين بقيادة جيش الاحتلال وحكومتهم.
ومما يلفت الانتباه في هذا الاستطلاع أنه أوضح أن الأغلبية العظمى من أصحاب التوجه اليميني في إسرائيل أصبحت لا تثق في قيادة جيشها ولا حكومتها. بل إن نسبة معتبرة من اليهود في دولة الاحتلال ممن كانوا يميلون في السابق إلى العدوان العسكري أصبحوا منفتحين نسبياً على الحلول الدبلوماسية. هذا التحول في المزاج العام يشير إلى تصدع عميق في الرواية الصهيونية التي طالما صورت إسرائيل كواحة للأمن والاستقرار في المنطقة.
لكن هذه الموجة من الهجرة العكسية لا تشكل تحدياً ديموغرافياً فحسب لدولة الاحتلال، بل تهدد أيضاً بتعميق الانقسامات الداخلية وزيادة عزلة إسرائيل عن العالم. فمع رحيل الكثير من الليبراليين والمتعلمين، قد تجد إسرائيل نفسها تنزلق نحو مزيد من التطرف والانغلاق. وهو ما يعني أن من سيتحكم في مستقبل دولة الاحتلال في النهاية هم جوقة من تيارات أقصى اليمين الذين تداعب عقولهم أوهام التوسع والسيطرة عبر ممارسة المزيد من القمع وإراقة الدماء.
في المقابل، تنظر المقاومة الفلسطينية إلى هذه التطورات باعتبارها مؤشراً على نجاح استراتيجيتها طويلة المدى. فالهدف ليس تحقيق نصر عسكري سريع، بل إقناع المحتل بأن وجوده على الأرض الفلسطينية له ثمن باهظ لا يمكن تحمله على المدى الطويل. وتستغرق هذه المهمة في الأغلب أجيالاً لتحقيقها، ويذهب في سبيلها عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من الشهداء، تماما كما فعل أجدادنا عندما طردوا المحتل الفرنسي من الجزائر التي كانوا يعتقدون أنها جزء لا يتجزأ من فرنسا!
وفي هذا السياق، تستفيد المقاومة من حقيقة أن قدرتها على تحمّل التضحيات والأضرار أكبر بكثير من قدرة المحتل الذي يَعِد أبناءه برغد العيش، ثم يفشل في الوفاء بوعده مرة بعد مرة. وهو ما يفسر جزئياً لماذا أصبح الكثير من الإسرائيليين يفكرون في الهجرة بعد كل مواجهة مع المقاومة.
ومما يزيد الطين بلة بالنسبة لدولة الاحتلال أن هذه الموجة من الهجرة العكسية تترافق مع انخفاض حاد في أعداد اليهود الراغبين في الهجرة إلى إسرائيل. فقد أظهرت الأرقام المبكرة أن عدد المهاجرين اليهود إلى إسرائيل قد انخفض مع الشهر الأول بعد أكتوبر 2023 بنسبة 50% مقارنة ببداية العام، ثم انخفض العدد بنسبة 70% في نوفمبر 2023.
هذا الواقع الجديد يضع دولة الاحتلال أمام معضلة حقيقية. فمن جهة، تحاول الحكومة الإسرائيلية التقليل من أهمية ظاهرة الهجرة العكسية خوفاً من تأثيرها على معنويات المجتمع. ومن جهة أخرى، تدرك القيادة الإسرائيلية خطورة هذه الظاهرة على المدى الطويل، لاسيما وأنها تهدد بالإخلال بالتوازن الديموغرافي الذي طالما سعت إسرائيل للحفاظ عليه.
وفي محاولة لمواجهة هذه الأزمة، أعلن وزير المالية الإسرائيلي المنتمي إلى اليمين المتطرف بتسلئيل سموتريتش في فبراير 2024 خطة لمنح مكافآت مالية للمهاجرين الجدد القادمين من الغرب إذا ما عاشوا ضمن ما سماها “الحدود الجنوبية أو الشمالية لإسرائيل”، أو في الضفة الغربية. لكن هذه الإجراءات تبدو وكأنها محاولة يائسة لوقف نزيف لا يمكن إيقافه بمجرد حوافز مالية.
في النهاية، تشير كل هذه التطورات إلى أن المشروع الصهيوني قد يكون دخل مرحلة أزمة عميقة. فبعد 76 عاماً من قيام دولة الاحتلال، يبدو أن الحلم بـ”وطن آمن لليهود” يتحول إلى كابوس بالنسبة للكثيرين. وفي حين تحاول الحكومة الإسرائيلية التقليل من أهمية هذه الظاهرة، فإن الأرقام والشهادات تشير إلى أن “الأرض المقدسة” قد تكون فقدت بريقها بالنسبة لعدد متزايد من الإسرائيليين.
ولعل ما يلخص هذه الحالة هو ما قالته سارة مان، الأسيرة السابقة لدى المقاومة والتي تبلغ من العمر 55 عاماً وتعيش في تل أبيب: “لقد انكسر العقد الاجتماعي، نحن نعيش هنا، ندفع الضرائب هنا، نرسل أطفالنا إلى الجيش، نتحمل المشاق والمتاعب. نتوقع الحماية من الدولة، نتوقع أن نبقى آمنين، لكن من الواضح أن الحكومة فشلت، والجيش فشل، وآلية الأمن فشلت، لماذا لم يكن هناك أمن على حدود غزة؟ لقد خانتنا حكومتنا”.
هذه الكلمات تعكس حالة من خيبة الأمل العميقة والشعور بالخذلان لدى شريحة واسعة من الإسرائيليين الذين بدؤوا يدركون أن الوعود الكبيرة التي قدمها لهم المشروع الصهيوني كانت مجرد سراب.
ولعل الرسالة الأبلغ قد وصلت إلى المتصهينين العرب الذين غمزوا المقاومة وشنّغوا على الطوفان وارتموا في حضن إسرائيل، هذه الرسالة تدعوهم ليكونوا في الجانب المشرق من التاريخ أو أن شعوبهم ستلعنهم ثم إلى الدرك الأسفل من جهنم وبئس المصير
عبد القادر بن خالد، صحافي جزائري وخبير في الإعلام الرقمي، ساهم في الانتقال الرقمي لقناة الجزيرة بعد انضمامه لها سنة 2014 وعمل رئيسا لقسم التواصل الاجتماعي بالجزيرة نت قبل استقالته نهاية 2021، يعمل حاليا مديرا للابتكار والنمو في مؤسسة فضاءات إحدى أكبر المجموعات الإعلامية في المنطقة العربية.
سيُحيي حفلا في المغرب.. إنريكو ماسياس: "أتمنى زيارة الجزائر قبل الموت"
تاريخي.. بن طالب هدّافا بعد 4 دقائق من عودته ويقود ليل للفوز
كأس الجزائر: شباب بلوزداد يُطيح بالمولودية ويتأهل إلى ثمن النهائي
الجزائر تُجسد دعمها للحكم الراشد في إفريقيا بمساهمة مالية للآلية الإفريقية للتقييم
سلمى حدادي ترفع الرهان عاليا.. ماذا ينتظرها