span>رهانات الأزمة المالية وعلاقتها بالعمق الاستراتيجي للجزائر فيصل إزدارن

رهانات الأزمة المالية وعلاقتها بالعمق الاستراتيجي للجزائر

تعيش جمهورية مالي على وقع انقلاب عسكري في أقل من سنة، فبعد الانقلاب الثامن عشر من شهر أوت الفارط والذي أطاح بالرئيس المنتخب السابق إبراهيم بوباكار كايتا، و بعد حل البرلمان و تنصيب رئاسة دولة وحكومة انتقاليتين، بقيادة كل من باه نداو وواني، قام ضابطين ساميين ممن قاموا بانقلاب 18 أوت بالإطاحة بالرئيس باه نداو على خلفية خلاف على تعيين طاقم حكومي جديد بتاريخ 23/05/2021 أين لم يرد اسميهما ضمن هذا الطاقم، ما فتح باب المخاوف والتكهنات حول مستقبل مالي السياسي والأمني على مصراعيه، ويؤجج من جديد سلسلة صراعات عسكرية وسياسية لا تحمد عقباها.

اتفاق الجزائر.. أولوية استراتيجية

في بحر سنة 2015، تم التوقيع على اتفاق من أجل السلام والمصالحة في مالي المنبثق من مسار الجزائر، أو ما يعرف باتفاق الجزائر، والذي جرت فعاليات برعاية ووساطة جزائريتين، وبملاحظة العديد من البلدان (الجزائر، فرنسا، الولايات المتحدة الامريكية، بوركينافاسو، موريتانيا، النيجر، نيجيريا، التشاد) والمنظمات الدولية والإقليمية (الاتحاد الأوربي، هيئة الأمم المتحدة، الاتحاد الإفريقي، المجموعة الاقتصادية لدول إفريقيا الغربية، منظمة التعاون الإسلامي).

وقد كانت الأطراف الموقع للاتفاق كل من جمهورية مالي من جهة، تنسيقية حركات الأزواد المناهضة الحكومة المالية و كذا منصة الحركات الموالية لها.

لقد قامت الجزائر برعاية مفاوضات عسيرة بين الأطراف المتصارعة من أجل إيقاف الحرب الأهلية المستعرة في مناطق شمال مالي والمتاخمة للحدود الجنوبية للجزائر.

يهدف أيضا هذا الاتفاق إلى دعم كل القوى من أجل محاربة الإرهاب في مالي وفي منطقة الساحل وكذا محاربة الجريم المنظمة الدولي التي تهدد الأمن والسلم الإقليميين، بالإضافة إلى دعم الوحدة الترابيزة للجمهورية مالي وبسط سلطتها على كامل الأقاليم الشمالية، الجنوبية والغربية لدولة مالي.

قام هذا الاتفاق بتحديد الآليات القانونية والتنظيمية لوقف الحرب وإحلال الأمن والسلام عن طريق تحقيق العدالة الاجتماعية، وإعادة توزيع عادل للثروات الوطنية، وإصلاح تشريعي ومؤسسات بغية إشراك جميع الأطراف في التيسير خاصة الأقاليم الشمالية عن طريق هياكل الديمقراطية التشاركية، ونزع السلاح وإعادة إدماج العناصر المسلحة في الجيش النظامي المالي، وإعطاء تمثيل أكبر لمواطني الشمال في مؤسسات الدولة.

حظوظ نجاح الاتفاق والقوى المناوئة له

إن التوصل إلى هذا الإنجاز الكبير كان مهمة مستحيلة، بما أنه في بداية الأمر رفض ممثل تنسيقية حركات الأزواد (CMA) سيدي إبراهيم ولد سيداتي بالتوقيع النهائي مكتفيا بالتوقيع بالحروف الأولى فقط، ثم بعد ذلك عاد ليوقع على الاتفاق تحت ضغوط الأطراف الراعية للاتفاق، وقد تم اغتيال ولد سيداتي في 13/04/2021 أمام بيته في العاصمة باماكو رميا بالرصاص، من طرف مجهولين دون معرفة هوياتهم لحد الآن.

وتجدر الإشارة إلى أنه محسوب على التيار المعتدل في تنسيقية حركات الازواد ومقرب من الدوائر الرسمية، و كان له دور محوري بقبول محتوى الاتفاق داخل أطياف تنسيقية حركات الأزواد علما أنه يتزعم إحدى فعالياتها و هي الحركة العربية الأزوادية التي كانت تسمى قبل 2012 بجبهة تحرير الوطني للأزواد، والتي تطالب باستقلالية أوسع في شمال مالي.

رغم تشبث كل الأطراف بتنفيذ هذا الاتفاق والتأكيد على أهميته الاستراتيجية في إحلال الأمن والسلم في منطقة الساحل إلا أنه يتعثر أو أريد له أن يتعثر في تطبيق بنوده؟ كما يرى ذلك محمد أمارا أستاذ في جامعة باماكو، والذي يوعز هذا التأخر في تنفيذ بنود الاتفاق إلى سوء نوايا بعض الأطراف الموقعة، وأيضا صعوبة المُضي في عملية إعادة إدماج ونزع سلاح المقاومين القدامى، وفي هذا الشأن يقول ماثيو بلران باحث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية أن مشروع نزع السلاح وإعادة إدماج المقاومين القدامى في الجيش النظامي لم يشمل لحد الآن سوى 1800 مقاوم من بين 2800 مثلما جاء في اللائحة 2480 لمجلس الأمن لهيئة الأمم المتحدة عام 2019، زيادة عن ذلك فالجماعات الموقعة تتحدث عن 85 ألف مقاوم.

بالإضافة إلى ذلك، هناك عجز الدولة المالية في بسط نفوذها وسلطتها على كامل الأقاليم بفعل الجريمة المنظمة الدولية، التي تمتهن الإرهاب وتهريب المخدرات و السلاح، ومما عقد الوضع أكثر هو المحاولات الإنقلابية التي توحي بانعدام التوافق والانسجام داخل مؤسسات الدولة في مالي و تعزز انعدام الاستقرار السياسي والمؤسساتي، مما يفقد الدولة لرؤية مدمجة  حول الأمن والتنمية.

وهناك سبب آخر هو التضخم العسكري الذي تعرفه المنطقة من تعدد في القوى العسكرية التي تتدخل في هذه المنطقة الحساسة من تقاطع في المصالح واختلاف في المقاربات الأمنية.

المقاربة الجزائرية ومشروع التهدئة الثابت

لقد استثمرت الجزائر كل جهودها من أجل إنجاح هذا الاتفاق وتنفيذ بنوده، ورغم كون الدبلوماسية الجزائرية صامتة ولكنها لا تدخر جهودا في الخفاء من دون ضجيج من أجل تأمين الحدود الجنوبية، فمشروع التهدئة الذي تعمل الجزائر في إطاره يهدف إلى قطع الطرق لمن يريد أن يصطاد في المياه العكرة من خلال إثارة النعرات في الأقاليم الشمالية لمالي بحكم أنها منطقة غنية بالثروات، وبتنوعها العرقي والثقافي.

وأعتقد أنه من هذا المنطلق صرح عبد المجيد تبون رئيس الجمهورية بأن الحل في مالي سيكون 90٪ جزائريا، قد يكون التصريح مبالغا فيه نوعا ما، ولكن المصير السياسي والأمني لمالي من صميم اهتمامات الساسة في الجزائر، ومن ضمن الرهانات الحالية والمستقبلية للدوائر الأمنية وللآلة الدبلوماسية الجزائرية.

لقد صرح وزير الشؤون الخارجية الجزائري صبري بوقادوم أن مشكلة تصفية الاستعمار أضحت قضية ملحة أكثر من أي وقت مضى، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في رأيي قد يقصد قضية الصحراء الغربية، وفي نفس الوقت تلميح للجذور التاريخية للأزمات التي تمر بها هذه المنطقة بفعل الظاهرة الاستعمارية، وأن الإرهاب ما هو إلا تحصيل حاصل للأزمات التي تمر بها هذه المنطقة.

بقلم : د. إزدارن فيصل / أستاذ محاضر و باحث في علم الاجتماع السياسي

تابع آخر الأخبار عبر غوغل نيوز

شاركنا رأيك