تعيش نيويورك منذ أسابيع على إيقاع سباق انتخابي استثنائي لاختيار عمدة المدينة الأكثر كثافة سكانية ونفوذا اقتصاديا في الولايات المتحدة. وقد فرض اسم زُهران كوامي ممداني، النائب في برلمان ولاية نيويورك عن حي كوينز، نفسه عنوانا لمرحلة سياسية جديدة في المدينة؛ ليس فقط بسبب عمره الشاب وخلفيته المسلمة، بل أيضا لسرديته السياسية التي تتعهد بجعل المدينة أكثر قدرة على العيش لطبقتها الوسطى ومنخفضة الدخل.

زهران ممداني متجولا في شوارع نيويورك
دخل عالم السياسة من النضال الطلابي والآن يطمح ليكون أصغر عمدة للمدينة منذ أكثر من 100 عام

يرى مراقبون أن ما يميز هذا السباق هو التقاء عاملين: صعود تيار شبابي تقدمي يبحث عن حلول ملموسة لأزمة غلاء المعيشة، ومناخ استقطاب قومي يضاعف الرهانات الرمزية لوصول أول مسلم محتمل إلى رئاسة بلدية نيويورك. وفي المقابل، يضاعف هذا المشهد مخاوف اليمين الذي يصور فوز ممداني باعتباره تغييرا يهدد هوية المدينة، رغم أن نيويورك مدينة كوزموبوليتية تاريخيا وتضم كتلة مسلمة كبيرة مقارنة بمدن أميركية أخرى.

يخوض ممداني سباقا متعدد الأطراف يضم الجمهوري كيرتس سليوا، المعروف في الأوساط الأمنية والإعلامية، إضافة إلى الحاكم السابق أندرو كومو الذي عاد الى الواجهة بصفة مستقلة. وقد تحولت وسوم الحملة ومقاطع الفيديو القصيرة على المنصات الاجتماعية إلى أدوات رئيسية في حشد الناخبين الشباب حول شعار “نيويورك التي يمكن تحملها”، مع التركيز على قضايا السكن والأجر والضرائب والخدمات العامة.

من هو ممداني وما الذي يقترحه؟

ولد زهران ممداني عام 1991 لأسرة ذات جذور هندية-أوغندية، ونشأ بين كيب تاون ونيويورك قبل أن يتخرج من مدارسها العامة. عُرف مبكرا بنشاطه الجامعي المؤيد للحقوق المدنية وبحضوره الثقافي في موسيقى الراب باسم مستعار، ثم دخل السياسة المحلية من بوابة الدفاع عن إصلاحات السكن وإلغاء ديون الطلبة. ورغم حداثة تجربته التنفيذية، رسخ وجوده في برلمان الولاية عبر شبكة من التحالفات التقدمية.

يرتكز برنامج ممداني على حزمة إجراءات يعتبرها أنصاره جوابا على تراجع القدرة الشرائية في المدينة:

  • تجميد زيادات الإيجارات في المساكن الخاضعة للاستقرار الإيجاري،
  • بناء مئات آلاف الوحدات السكنية الميسرة
  • توسيع النقل العام المجاني تدريجيا عبر الحافلات
  • دعم الرعاية الشاملة للأطفال، ورفع الحد الأدنى للأحور بشكل تدريجي ليبلغ 30 دولارا في أفق زمني محدد، مع تمويل ذلك بزيادة الضرائب على الشرائح الأغلى دخلا وعلى الشركات الكبرى.
  • كما يروج لفكرة متاجر بقالة مملوكة للبلدية لتخفيف كلفة السلع الأساسية في الأحياء الفقيرة التي تندر فيها خيارات التسوق بأسعار مناسبة.
إريك آدمز (يسارا) وكومو المنافس لزهران

سياسيا، يضع ممداني ملف العدالة الاجتماعية في صلب حملته، ويربطه بقضايا واسعة مثلا إصلاح الشرطة والضرائب. وقد نال دعم شخصيات يسارية بارزة داخل الحزب الديمقراطي، إلى جانب تأييدات من مسؤولين على مستوى الولاية رأوا في برنامجه فرصة لالتقاء أجندة المدينة مع سياسات الولاية في ملفي السكن والضرائب.

هذا الزخم لا يحجب الانتقادات التي تعتبر وعوده مكلفة ماليا وصعبة التنفيذ إداريا في مدينة ميزانيتها تتجاوز مئة مليار دولار ولها التزامات وخدمات معقدة.

سجالات صاخبة وهجمات مضادة

لم يخل السباق من لغة حادة. فقد هاجم الرئيس السابق دونالد ترمب المرشح الشاب بوصفه يساريا “متطرفا”، في محاولة لربط برنامجه بمقولات “الاشتراكية” غير المرحب بها لدى شريحة من الناخبين.

من جهته، اتهم أندرو كومو وإريك آدامز، العمدة المنتهية ولايته، ممداني بالعداء للأعمال وببيع “أوهام” للفئات الأكثر هشاشة.

يرد فريق ممداني بأن الخصوم يتجنبون نقاش جوهر أزمة السكن والأجر وان اتهامات “تخويف” الناخبين لا تقدم بديلا لما يعيشه سكان المدينة يوميا.

في محور الهوية والدين، تحوّل تمسك ممداني العلني بإسلامه إلى ساحة سجال أخرى. فقد أعلن في تجمعات جماهيرية قرب مساجد المدينة أنه لن يخفي إيمانه ولن يعتذر عنه، مستحضرا تجارب مسلمين تعرضوا لإساءات بعد هجمات 11 سبتمبر.

ترمب هدد الناخبين وقال إنه سيقطع الدعم الفدرالي عن نيويورك إذا فاز زهران

هذا الخطاب وجد صدى لدى ناخبين يعتبرون تمثيلهم في السلطة المحلية جزءا من مساواة مدنية طال انتظارها. في المقابل، اعتبر خصومه أن استدعاء سرديات الضحية يشتت الأنظار عن أسئلة الكفاءة والقدرة على إدارة مدينة بحجم نيويورك.

لا يخفي ممداني مواقفه المؤيدة لحقوق الفلسطينيين، وهو ما جر عليه انتقادات من لوبيات مؤيدة لإسرائيل ومن سياسيين جمهوريين متهمين إياه بالتشدد. لكن حملته ترى أن هذه المواقف لا تتعارض مع أولويات بلدية محلية، وأن صلب البرنامج يبقى معيشة سكان نيويورك وخدماتهم.

ماذا بعد فوز محتمل؟

في حال فوزه، سيكون على ممداني إدارة ائتلاف انتخابي واسع وتحويل الشعارات إلى سياسات قابلة للتطبيق عبر مجلس المدينة وإداراتها.

التحدي الأول سيكون تمويل مشاريعه دون تقويض جاذبية الأعمال ولا إثقال كاهل الطبقة الوسطى، مع المحافظة على تصنيف ائتماني جيد للمدينة. كما سيحتاج إلى شراكة عملية مع حاكمة الولاية لتأمين تشريعات أساسية في السكن والأجور والنقل، وهي ملفات تتداخل صلاحياتها بين الولاية والمدينة.

التحدي الثاني يتعلق بالأمن الحضري وتوازن الحقوق المدنية مع متطلبات السلامة العامة. فنجاح أي أجندة اجتماعية مرهون بثقة سكان الأحياء في قدرتها على حماية الأعمال والمدارس ووسائل النقل من الجريمة، لاسيما في ظل سردية إعلامية تربط التوجهات التقدمية بارتفاع الجريمة. سيتعين على الإدارة المقبلة إثبات العكس عبر مقاييس واضحة للنتائج.

التحدي الثالث هو الإدارة اليومية لمدينة تضم 8.5 ملايين نسمة وعشرات الآلاف من الموظفين العموميين وإدارة العقود وصيانة البنية التحتية ومعالجة أزمة المهاجرين الجدد وتسريع تصاريح البناء.. كلها ملفات تتطلب خبرة تنفيذية وفريقا إداريا قويا قادرًا على اتخاذ قرارات صعبة والاحتفاظ بالدعم الشعبي في آن واحد.

في المحصلة، يقدم صعود زهران ممداني صورة مكثفة لتحولات أميركية أعمق: تصاعد كلفة المعيشة واشتداد الاستقطاب السياسي والثقافي بالإضافة إلى بحث المدن الكبرى عن توازن جديد بين جاذبية الاستثمار وكرامة العيش. سواء انتهت الانتخابات بتكريس هذه الموجة التقدمية أو بكبحها، فإن نيويورك تبدو متجهة إلى اختبار حقيقي لمعنى أن تكون مدينة قابلة للتحمل في القرن الحادي والعشرين.