في خطوة تندرج ضمن محاولات فرنسا لمراجعة ذاكرتها الاستعمارية، تعتزم بلدية باريس في الرابع من ديسمبر المقبل تثبيت لوحة تذكارية في شارع “الأغواط” بالعاصمة الفرنسية، تخليدًا لذكرى ضحايا المحرقة التي ارتكبها الجيش الفرنسي في مدينة الأغواط الجزائرية عام 1852.
المبادرة تأتي في ظل توتر العلاقات الجزائرية-الفرنسية، لكنها تحمل بعدًا رمزيًا مهمًا لتوثيق واحدة من أبشع الجرائم التي وصفتها تقارير تاريخية بأنها “أول هولوكوست في العصر الاستعماري الحديث”.
بحسب مقترح عمدة باريس، آن هيدالغو، ستتضمن اللوحة النص التالي: “في عام 1852، شنّ الجيش الفرنسي هجومًا على مدينة الأغواط الجزائرية، التي انتفض سكانها ضد الغزو الإمبراطوري. وقد أسفرت هذه المجزرة، التي ارتُكبت من أجل المصالح الاستعمارية الفرنسية، عن إبادة ثلثي سكان المدينة، وهي جريمة حرب. هذه التذكرة تُحيي ذكرى سكان الأغواط.”
النص يقرّ بأن هذه الجريمة ترقى إلى جريمة حرب، ويهدف إلى تخليد ذكرى الضحايا الذين فقدوا أرواحهم بسبب الاحتلال الفرنسي، (استشهاد 3786 شخصًا من أصل 4500 نسمة كانت تقطن بالمدينة).
الجدير بالذكر أن شارع الأغواط في الدائرة الثامنة عشرة بباريس كان يحمل هذا الاسم منذ عام 1864، لتخليد ما اعتبره الفرنسيون آنذاك “انتصارًا استعماريًا”. لكن المبادرة الجديدة تهدف إلى تحويل دلالة الاسم من رمز للغزو إلى تكريم للضحايا، في خطوة تعكس تحولًا في كيفية التعامل مع الإرث الاستعماري.
المشروع جاء استجابةً لنداءات أطلقها مؤرخون وناشطون جزائريون، بينهم الكاتب لزهاري لبتر، الذي نشر عريضة في صحيفة لوموند الفرنسية في فبراير 2023 طالب فيها بتخليد ذكرى ضحايا الأغواط.
وردّت هيدالغو بالإعلان عن هذه الخطوة التي اعتبرتها جزءًا من “واجب الذاكرة”، مؤكدةً أن الاعتراف بمثل هذه الجرائم ضرورة لتعزيز الصداقة الفرنسية-الجزائرية.
وفقًا للمراجع التاريخية، تعود أحداث المجزرة إلى عام 1852 عندما حاصر الجيش الفرنسي مدينة الأغواط، التي عرفت بمقاومتها الشديدة للاستعمار.
وبعد حصار دام أكثر من أسبوعين، اقتحمت قوات الاحتلال الفرنسي المدينة بوحشية (6000 جندي). واستخدمت أسلحة غير تقليدية، بما في ذلك الغازات الكيميائية مثل الكلوروفورم، لقتل السكان وشلّ حركتهم.
لم تقتصر الجرائم على القتل الجماعي، بل شملت حرق المدنيين أحياءً، ووضعهم في أكياس خيش قبل إلقائهم في حفر جماعية. كما تم حرق المغارات التي لجأ إليها السكان بالنار والدخان، ما أسفر عن مقتل 3786 شخصًا من أصل 4500، ولم يتم استثناء النساء أو الأطفال.
وتشير تقارير إلى أن هذه الأساليب جعلت المجزرة واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ الحديث، وتعرف عند المختصين بأنها أول هولوكست في التاريخ الاستعماري الحديث.
هذه المبادرة “الرمزية” وبعض المبادرات التي سبقتها من اعتراف باغتيال بن مهيدي وبومنجل وأودان، وتحميل المسؤولية لأشخاص وليس للدولة الفرنسية لا ترتقى إلى مستوى الاعتراف الكامل بالجرائم الاستعمارية، التي تطالب بها الجزائر مع الاعتذار الرسمي والتعويض المعنوي والمادي.
المحرقة التي عرفتها الأغواط هي واحدة من مئات الجرائم التي ارتكبتها فرنسا خلال استعمارها للجزائر، وتظل شاهدًا على فجوة كبيرة بين ما ترغب فيه فرنسا بطي صفحة الذاكرة، وما تنتظره الجزائر من عدالة تاريخية والاعتراف بجرائم الاستعمار.