طوفان الأقصى: كيف كسرت المقاومة الفلسطينية شوكة الاحتلال؟ عبد القادر بن خالد

طوفان الأقصى: كيف كسرت المقاومة الفلسطينية شوكة الاحتلال؟

  • انسخ الرابط المختص

بعد مرور عام على طوفان الأقصى، مازالت بعض الأصوات تصف الطوفان باللحظة الطائشة وتواصل مهاجمة المقاومة الفلسطينية، متجاهلة التضحيات العظيمة التي بذلها الشعب الفلسطيني في سبيل نيل حريته.

لكن الحقائق على الأرض أثبتت خطأ هذه الأصوات، فالنتائج العظيمة للطوفان لا يمكن إنكارها؛ فقد شكَّل تحوُّلاً عميقاً في مسار النضال الفلسطيني، وترك بصمة واضحة في الوعي الجماعي للمحتلين قبل الفلسطينيين.

تأتي هذه الذكرى والدمار قد ضرب قطاع غزة من جديد، حيث يرزح الناس تحت وطأة الدمار والتشريد، فيما يزداد حديث المحتلين الإسرائيليين عن “ضرورة سحق” المقاومة. ورغم ذلك، فإن المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس ظلت شامخةً قوية متصدية لكل أنواع العدوان غير المسبوق، تحمل في بندقيتها حلم الحرية والأمل الذي لا ينكسر، مما جعل من طوفان الأقصى حدثًا كابوسيًا يطارد العدو في يقظته ومنامه، ويصعب على المحتلين محوه من الذاكرة أو تجاوزه.

المقاومة والاستنزاف

ليس خافياً على أحد أن إسرائيل قد سعت، منذ عقود، إلى استخدام القوة العسكرية المفرطة، مستفيدة من الغطاء الغربي والأمريكي، في محاولة لزرع الرعب في قلوب الفلسطينيين، لكن طوفان الأقصى جاء ليثبت بوضوح أن مثل هذه الاستراتيجيات لم تعد تفي بالغرض، وأن القوة العسكرية الإسرائيلية لم ولن تستطيع حسم المعركة.

المقاومة الفلسطينية، بأسلوبها الاستنزافي، تمكنت من جعل إسرائيل تنجر إلى مواجهات مستمرة، ومنعت تل أبيب من تحقيق أهدافها بإخضاع القطاع أو إضعاف حركة حماس. لقد وضعت المقاومة العدو أمام خيارين كلاهما مرّ؛ إما الاستمرار في حرب طويلة الأمد تُنهك اقتصادها وجيشها، أو قبول التفاوض بشروط المقاومة.

تحصين المواقف وتفكيك الأوهام

المتابع للمشهد في غزة يرى أن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال، وبعد عام من بدء الطوفان، في حالة استعداد قصوى لمواجهة أي طارئ عسكري جديد، وهو ما يظهر في زيادة التحصينات على طول محور فيلادلفيا ونتساريم. لكن هذه الإجراءات العسكرية، وفق كثير من المحللين، هي محاولة يائسة لطمأنة الشارع الإسرائيلي، أكثر من كونها حلولاً جادة لحسم المعركة، وإلا كيف نفسر استمرار سقوط القتلى الإسرائيليين في معارك غزة؟

المقاومة الفلسطينية استطاعت أن تقلب الطاولة على المحتلين ومعاونيهم، فبعد أن توعد وزير الأمن إيتمار بن غفير بـ”تدحرج الرؤوس” في غزة، ها هي رؤوس كثيرة قد تدحرجت في قيادة الجيش الإسرائيلي والاستخبارات، وسط استقالات وإقالات متتالية تضاف إلى عدد غير مُعلن من الجنود والضباط الذي قُتلوا من طرف المقاومة. هذا الفشل العسكري والإعلامي أفقد الإسرائيليين الثقة في قيادتهم، وهو ما يظهر جليًا في الاستطلاعات التي تُشير إلى أن 73% من الإسرائيليين يعتقدون بالفشل أمام حماس.

انكشاف ازدواجية الإعلام الغربي

من أبرز النقاط التي ظهرت خلال معركة طوفان الأقصى هي ازدواجية المعايير التي انتهجها الإعلام الغربي في تغطيته للأحداث. فقد حاول الإعلام الغربي، بمختلف مؤسساته، مساواة الضحية بالجلاد، وتجاهل الجرائم التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين في غزة. هذه التغطية المنحازة ساهمت في تعزيز صورة لشيطنة المقاومة وحشد الدعم ضدها، ودفعت بالكثيرين في الغرب للاعتقاد بأن هناك توازنًا بين طرفي النزاع، رغم أن الاحتلال يمارس أبشع أنواع العنف ضد شعب محاصر ومُحتل، وفشلت المؤسسات الإعلامية الكبرى مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وبي بي سي وغيرهم في إظهار حق مقاومة المحتل أو التشنيع على مجازر إسرائيل!

ومع ذلك فقد نجح طوفان الأقصى في كشف هذه الازدواجية ودفع بالإعلاميين المستقلين إلى رواية قصصهم الخاصة بغض النظر عن “أبجديات الإعلام” التي تغنت بها كليات الإعلام وصدرتها إلى المنطقة العربية.

صورة مولدة بالذكاء الصناعي تُظهر مقاتلا فلسطينيا منتصرا
صورة مولدة بالذكاء الصناعي تُظهر مقاتلا فلسطينيا منتصرا

الطوفان يجرف التطبيع

ساهم طوفان الأقصى أيضًا في القضاء على ما يسمى باتفاقيات “أبراهام” لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية. فقد أظهرت الأحداث أن هذه الاتفاقيات لم تحقق الاستقرار المزعوم، بل على العكس، زادت من حدة التوتر ورفعت من منسوب الغضب الشعبي ضد الدول المطبعة مع الكيان الصهيوني.

اتساع رقعة الرفض للكيان الصهيوني

رغم “النجاحات” التي حققها الصهاينة في لبنان هناك باغتيال حسن نصر الله وقادة حزب الله السياسيين والعسكريين، إلا أن الحزب ما زال قادراً على إمطار المدن بالصواريخ، وهو ما يجعل شمال إسرائيل تحت التهديد المستمر، بالإضافة إلى الاشتباك المباشر مع جنود الاحتلال على الأرض جنوب لبنان.

ومن اليمن، دخل الحوثيون على خط المواجهة أيضا، حيث هاجموا إسرائيل بالطائرات المسيرة والصواريخ، مما أثر على ميناء إيلات وحركة الملاحة في البحر الأحمر. هذا التحول الجديد في الحرب جعل إسرائيل تجد نفسها أمام جبهات متعددة، ومع كل جبهة تُفتح يتراجع احتمال تحقيق نصر سريع وحاسم.

وهنا نلاحظ اتساع رقعة الرفض للكيان الصهيوني في دول المنطقة، مثل لبنان واليمن والعراق وإيران وصولا إلى دول غربية. هذا الرفض لم يعد مقتصرًا على البيانات السياسية أو التظاهرات، بل تحول إلى دعم فعلي للمقاومة، سواء عبر الهجمات المباشرة أو المساندة اللوجستية أو السياسية. هذه التحركات تعكس مدى الغضب الإقليمي من السياسات الإسرائيلية، وتؤكد أن الكيان الصهيوني يواجه رفضاً متزايداً ليس فقط من الفلسطينيين، بل من شعوب المنطقة ككل.

الضفة الغربية: الحضور المؤجل والانفجار المنتظر

في الوقت الذي بدت فيه الضفة الغربية هادئة نسبياً خلال بداية الطوفان، فإن هذا الهدوء لم يكن إلا استعداداً لانفجار جديد. المقاومة في الضفة بدأت تتعزز وتأخذ أبعادًا جديدة، وقد أصبحت هذه الجبهة أكثر تعقيدًا وصعوبة على إسرائيل. ورغم محاولات السلطة الفلسطينية قمع أي عمل مقاوم، إلا أن المقاومة هناك يشتد عودها، وهي مستعدة للانفجار في أي لحظة.

حماس: التحدي الأكبر

حركة حماس، وبعد عام من الطوفان، لا تزال صامدة وقادرة على المناورة. رئيس المكتب السياسي للحركة، يحيى السنوار، لم ينج فقط من هذه الحرب، بل يضع الآن أُسسًا لإعادة بناء حماس وتحقيق المزيد من الإنجازات. حركة حماس تمكنت من تطوير قدراتها الذاتية لإنتاج الأسلحة والمتفجرات وفقًا لصحيفة واشنطن بوست، وهو ما يجعلها قادرة على الصمود أمام الاحتلال لفترة طويلة.

هذه القدرات الذاتية لحماس تعني أنها ليست بحاجة كبيرة لدعم خارجي لتسليح نفسها، وهذا ما يقلق إسرائيل ويجعلها تشعر بأن الحرب مع غزة لن تُحسم بسهولة. إضافة إلى ذلك، فإن حماس تمكنت من تعويض خسائرها البشرية وتجديد دمائها بمقاتلين جدد، مما يظهر قدرتها على استمرارية القتال.

الأرض لأصحابها.. الجزائر نموذجا

 طوفان الأقصى ساهم بشكل كبير في ترسيخ وتأكيد وإعادة التذكير بفكرة أن الأرض الفلسطينية هي للفلسطينيين وحدهم وليست لليهود المحتلين. هذا ما تؤكده الهجرة العكسية التي شهدتها إسرائيل بعد 7 أكتوبر، حيث غادر قرابة نصف مليون مستوطن البلاد دون نية للعودة، مما يعكس حجم الخوف وعدم الثقة في قدرة الاحتلال على توفير الأمان للمستوطنين المحتلين.

إسرائيل تعيش اليوم حالة من الانقسام الداخلي لم تعرفها من قبل. المجتمع الإسرائيلي بات منقسماً حول كيفية إدارة الحرب، وهناك من يفكر في الهجرة للخارج بسبب الوضع الأمني والسياسي. وفق استطلاع أجرته قناة “كان” الرسمية، فإن نحو ربع الإسرائيليين فكروا في مغادرة البلاد خلال العام الماضي، وهو رقم يعكس حجم اليأس والقلق الذي يعيشه الشارع الإسرائيلي.

الهجرة العكسية دليل واضح على أن الاحتلال بات غير قادر على استقطاب المزيد من المستوطنين، وأن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض الحقيقيون الذين لن يتخلوا عنها، مهما دفعوا من أموال وأنفس!

بالمقابل، فإن الحاضنة الشعبية للمقاومة في غزة ظلت متماسكة، ولم يقبل سكان القطاع النزوح من بيوتهم رغم شدة القصف. هذا التماسك الشعبي هو نقطة قوة للمقاومة، ويعزز من قدرتها على الاستمرار في مواجهة العدوان. كما أن الاستطلاعات في غزة والضفة تظهر أن الغالبية العظمى من الفلسطينيين يؤيدون العمل المسلح كخيار لمواجهة الاحتلال، مما يضيف مزيدًا من الدعم والشرعية للمقاومة.

هذا المشهد يعيد إلى الأذهان نضال الشعب الجزائري ضد فرنسا الاستعمارية، التي كانت تعتقد أن الجزائر أرض فرنسية، ومع ذلك استطاع الجزائريون استرجاع أرضهم بعدما دفعوا الغالي والنفيس وكبدوا المحتلين الفرنسيين خسائر لم يتحملوها. الأرض دائمًا لأصحابها، والاحتلال مهما طال زمنه سيواجه حتمًا مقاومة لا تلين حتى يتمكن أصحاب الأرض من استعادة حقوقهم.

ختامًا: المقاومة ومستقبل الصراع

بعد عام كامل على الطوفان، ما زالت المقاومة الفلسطينية قادرة على خوض المعركة وتكبيد الاحتلال المزيد من الخسائر. إسرائيل التي بدأت حربها على غزة بهدف إنهاء حماس، وجدت نفسها في مواجهة متعددة الجبهات ومع خطر تحول الصراع إلى حرب إقليمية طويلة الأمد. إن عدم قدرة إسرائيل على تحقيق أي من أهدافها خلال هذا العام، من إخضاع المقاومة أو تأمين مستوطناتها، يُظهر بوضوح أن نهاية هذه الحرب ليست قريبة.

المقاومة من جانبها تستفيد من كل جولة لتحقيق مكاسب جديدة، سواء على الصعيد العسكري أو الشعبي. هي معركة وجودية، وكلما طال أمدها زادت احتمالية أن تجد إسرائيل نفسها مضطرة للجلوس إلى طاولة المفاوضات بشروط المقاومة، أو مواجهة خطر الانهيار الداخلي.

الحرب لم تُحسم بعد، ولكن ما هو مؤكد أن معركة طوفان الأقصى قد غيّرت مسار الصراع، وأثبتت للعالم أن الشعب الفلسطيني لن يتخلى عن حقوقه، وأن المقاومة هي الطريق الوحيد لتحقيق الحرية.

عبد القادر بن خالد

عبد القادر بن خالد، صحافي جزائري وخبير في الإعلام الرقمي، ساهم في الانتقال الرقمي لقناة الجزيرة بعد انضمامه لها سنة 2014 وعمل رئيسا لقسم التواصل الاجتماعي بالجزيرة نت قبل استقالته نهاية 2021، يعمل حاليا مديرا للابتكار والنمو في مؤسسة فضاءات إحدى أكبر المجموعات الإعلامية في المنطقة العربية.

شاركنا رأيك