أيام معدودات تفصلنا عن الدور الثاني للانتخابات الرئاسية في فرنسا، أين يتنافس كل من مترشح الوسط اليميني والرئيس المنتهية عهدته إمانويل ماكرون، ومترشحة اليمين المتطرف مارين لوبانعن حزب التجمع القومي.
رغم جنوح أغلب استطلاعات الرأي لفوز المترشح ماكرون بالأغلبية أوبفارق طفيف، ولكن فكرة فوز مارين لوبان بالرئاسة لم تعد مجرد فرضية تافهة أو عابرة، فما هي حظوظ مارين لوبان للوصول إلى الإليزيه؟
لقد أثبتت نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية الفرنسية الذي جرى يوم الأحد 10 أفريل، أن المشهد السياسي في فرنسا قد انقلب رأسا على عقب، حيث تم وأد التيار اليساري التقليدي، وأدخل اليمين في أزمة هوية حادة تفرقت دماؤه بين أطياف متطرفة أقرب في فكرها من اليمين المتطرف من الروح الجمهورية.
ورغم أن إريك زمور عن “حزب إعادة الغزو” قد حصد 7% من الأصوات، لكن تحطمت أحلامه أمام انبعاث مارين لوبان وحزبها بعدما ظن الجميع أنها غدت من الماضي، لكنها استطاعت أن تحيا وتبعث من ركامها من جديد على شاكلة طائر العنقاء الأسطوري.
لقد ساعد الإعلام بشكل كبير في تهذيب صورة المترشحة مارين لوبان بعدما تم شيطنتها في سنوات مضت، فتضاعفت خرجاتها الإعلامية أين نراها مع قططها، أو في حديقتها تقطف الأزهار أو في مطبخها تطهو ما لذ وطاب، فتكرست في مخيلة الفرنسيين أنها في الأساس امرأة كغيرها، لديها أحاسيس ومشاعر، ونسوا جنوحها نحو التطرف والخطاب العنصري الذي نشأت فيه، ووعودها الانتخابية التي ستعصف بمصير مئات الآلاف من المهاجرين أو أبنائهم في حال انتخابها رئيسة للجمهورية. نسوا علاقاتها المشبوهة مع عناصر من النازيين الجدد، وتاريخ حزبها الطويل في المعاداة للسامية وللمسلمين والإسلام، فهي ترى أن الحجاب رمز إسلاماوي متطرف يجب محاربته في الفضاء العام.
رغم ما حظي به إريك زمور من استقطاب للإعلام، واستطلاعات الرأي التي أعطته وزنا أكثر مما يستحق، عرف انتكاسة حقيقية في نتائج الدور الأول، حيث تحصل على 7 % من الأصوات المعبر عنها، بينما حققت مارين لوبان نتيجة مشجعة مكنتها من التأهل للدور الثاني، لأنها بقيت وفية لخطها السياسي الذي يسبح على أمواج التطرف والإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب، واستطاعت حصد أكثر من 23% من الأصوات المعبر عنها، لتؤكد على قوتها وصلابتها و حفاظها على وعائها الانتخابي المستقر والحيوي.
وصول #إيريك_زمور أو #مارين_لوبان إلى رئاسة #فرنسا سيشكل خطرا على الجالية الجزائرية التي ستعاني من التضييق.. إليك التفاصيل pic.twitter.com/rXe2BnPsWf
— أوراس | Awras (@AwrasMedia) December 17, 2021
في حال وصول مترشحة اليمين المتطرف إلى سدة الحكم، ستحل كارثة حقيقية لمكانة فرنسا على الساحة الدولية، التي اهتزت مؤخرا جراء الأزمات الدولية المتعاقبة وأزمة الجائحة الصحية التي ضربت الاقتصاد العالمي. فالرئيس ماكرون حاول إعادة بناء العلاقات الفرنسية الإفريقية ولكنه اصطدم بالإرث الاستعماري الذي ما زال يلوث السمعة الفرنسية، وجنوح الفئات الشبابية الإفريقية إلى التخلص من علاقات الهيمنة التي ورثتها إفريقيا من الحقبة الاستعمارية.
بالنسبة لمكانة فرنسا في الاتحاد الأوروبي، فانتخاب مارين لوبان لن يرهن مستقبل فرنسا في الاتحاد فحسب، ولكن سيرهن مستقبل الاتحاد الأوربي برمته لأن قاطرتا الاتحاد بعد انسحاب بريطانيا هما فرنسا وألمانيا، وحتى فكرة مارين لوبان فيما يخص أوربا الأمم غير واضحة ومشروع شعبوي غير قابل للتحقيق على أرض الواقع. ناهيك عن علاقاتها المشبوهة مع روسيا التي أضحت عدوا للغرب بعد اجتياحها لأوكرانيا.
بعد الانتكاسات التي عرفتها فرنسا على الساحة الدولية من خلال فشلها الذريع في إبرام صفقة بيع الغواصات لأستراليا، بالإضافة إلى فشلها الذريع في الحفاظ على مكانتها بين حلفائها التقليديين، إبعادها عن الحلف الجديد في المحيط الهادي (AUKUS) والذي تشكل بين الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة وأستراليا.
انتكاسة أخرى ولن تكون الأخيرة، هي فشل فرنسا في فرض نفسها كشريك مهم في منطقة الساحل في إطار محاربة الإرهاب (عملية برخان)، فلم تستطع احتواء ازمتها السياسية والديبلوماسية مع المؤسسة العسكرية في مالي، وفقدانها مناطق نفوذ لصالح روسيا، وما هو مؤكد انتخاب مارين لوبان سيكرس هذا التقهقر في هذه المناطق بحكم سياستها في قضايا الهجرة والأجانب.
لقد عرفت العلاقات الثنائية بين الجزائر وفرنسا تذبذبات عبر حقب زمنية مختلفة، بسبب موضوع الذاكرة، ولكن ليس الوحيد، بحكم أن المصالح تتعارض على أرض الواقع في كثير من الأحيان، ولكن عرفت ذات العلاقات دفئا جديدا مع الزيارة الرسمية التي قام بها جاك شيراك، على إثر عهدته الثانية (2002-2007) والذي لقي بموجبها استقبالا غير مسبوق من طرف الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، نظرا لما يتمتع به الرئيس الفرنسي من تعاطف من قبل الشعوب العربية نظرا لمواقفه تجاه العرب والقضية الفلسطينية، وأعقبتها الزيارة التي قام بها الرئيس بوتفليقة إلى باريس في شهر جوان من عام 2000.
وكان الرئيسان شيراك وبوتفليقة على وشك التوقيع على معاهدة الصداقة التي جاءت تتويجا وتكريسا لخطاب الجزائر في غضون عام 2003، ولكن حال دون ذلك التصويت الجمعية الوطنية بفرنسا على قانون يبرز في محتواه تمجيد الاستعمار في المقررات المدرسية، “علما أن هذا القانون صوت عليه في ظروف غامضة ولم يحظى بالإجماع، فكانت بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، حيث صرح وزير الخارجية الجزائري محمد بجاوي: “الظروف الموضوعية والذاتية الضرورية للتوقيع على هذه الاتفاقية غير مهيأة وغير كافية”، مما يدفعنا للقول بأن ثمة مجموعات متطرفة من أنصار الجزائر الفرنسية متمكنة في دوائر صناعة القرار تحاول وبشكل مستمر لإعاقة وتثبيط كل جهد يسعى إلى إعادة المياه إلى مجراها في العلاقات الجزائرية الفرنسية.
رغم قيام نيكولا ساركوزي بزيارة رسمية إلى الجزائر، تبقى فترة حكمه سيئة للغاية على مسار العلاقات الثنائية، بحيث امتازت مواقفه بالضبابية تجاه الجزائر ومختلف القضايا العالقة كمسألة حرية تنقل الأشخاص، ومصير اتفاقية 27 ديسمبر 1968، ومسألة الاعتراف بجرائم فرنسا الاستعمارية في حين يمد يده لجمعيات الحركى على حساب تسوية شاملة وحقيقية لحل النزاعات العالقة بين فرنسا والجزائر.
تأتي زيارة هولاند في ظرف يتفق الطرفان على استبعاد مصطلح معاهدة الصداقة واستبداله بمصطلح الشراكة الاستثنائية، وهنا لم تخرج الديبلوماسية الجزائرية عن خطها التقليدي بحيث أنها تريد إقامة علاقات ثنائية تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة للبلدين.
حاول إيمانويل ماكرون إعادة بناء العلاقات الجزائرية الفرنسية على أسس جديدة، ولكنه فشل في ذلك، لأنه اصطدم بإشكالية الذاكرة التي أججت المشاعر لدى الجزائريين، أضف إلى ذلك معضلات أخرى عكرت صفو العلاقات، منها الدور الفرنسي في منطقة الساحل وحرية التنقل وقضية التأشيرات.
قد تكون استضافة الوزير الفرنسي للداخلية من طرف عميد مسجد باريس لمأدبة إفطار كإشارة واضحة لمساندة المترشح ماكرون من طرف السلطات الجزائرية، ويكون ذلك رفضا لترشح مارين لوبان وانعدام النية في التعامل معها مستقبلا، وفوزها بالرئاسة سيكون حتما عاملا آخر في تأزيم العلاقات الثنائية، بحكم أنها ستبادر بإعادة التفاوض حول الاتفاق الفرنسي-الجزائري 1968، الذي يحدد معايير وإجراءات إقامة الرعايا الجزائريين في فرنسا، بالإضافة إلى إعادة النظر في سياسة التأشيرات وقضية الأوقاف الإسلامية. ما قد يكون انتكاسة حقيقية لمكانة فرنسا في القارة السمراء.
بقلم: د. إزدارن فيصل، باحث في علم الاجتماع السياسي – باريس