شهدت العاصمة القطرية الدوحة، خلال الفترة من 25 إلى 27 يناير 2025، انطلاق أعمال المنتدى السنوي لفلسطين في دورته الثالثة. نظّم هذا اللقاء الأكاديمي والبحثي كلٌّ من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بحضور نخبة من الأكاديميين والباحثين والمفكّرين المهتمين بالقضية الفلسطينية من العالم العربي وخارجه. وقد جاء المنتدى هذا العام في سياقات سياسية وأمنية بالغة التعقيد، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة وتصاعد التوتر في الضفة الغربية، ما أضفى على الجلسات أهمية إضافية عزّزت من التفاعل الكبير مع فعالياته وحواراته.
وقد تميّز المنتدى بمشاركة واسعة من باحثين قدّموا أوراقًا تناولت واقع القضية الفلسطينية، على مختلف الصُّعد السياسيّة والاجتماعيّة والقانونيّة والإعلاميّة، فضلًا عن التركيز على تداعيات حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة مؤخرًا، وما صاحبها من إجراءات عسكريّة شاملة هدفت إلى ضرب البنية التحتية الفلسطينيّة وإرهاق سكان القطاع المحاصرين. وعلى الرغم من نجاح المنظّمين في تأمين وصول عدد كبير من المشاركين، فإنّ جزءًا من الباحثين المدعوين واجه صعوبات بالغة في مغادرة قطاع غزة والضفة الغربية جرّاء القيود الإسرائيلية، الأمر الذي أعاق حضورهم المباشر، وإن لم يثنِ ذلك عن مناقشة أوراقهم عبر وسائل الاتصال المتاحة.
افتُتحت أعمال المنتدى السنوي لفلسطين صباح السبت، 25 يناير 2025، وسط حضور رسمي وشعبي حاشد، وبحضور سفير الجزائر في الدوحة السيد صالح العطية، وكل من الشيخ عبد الرحمن بن حمد آل ثاني، وزير الثقافة، والسيدة مريم بنت علي بن ناصر المسند، وزيرة الدولة للتعاون الدولي، والدكتور محمد بن عبد العزيز بن صالح الخليفي، وزير الدولة في وزارة الخارجية. كما حضر الافتتاح عددٌ من السفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية المعتمدين لدى الدوحة، ما يعكس الاهتمام الرسمي القطري بالقضية الفلسطينية، فضلًا عن متابعة دولية واسعة لهذا الحدث.
بدأت الفعاليات بكلمة قدّمتها آيات حمدان، الباحثة في المركز العربي للأبحاث ومنسّقة المنتدى السنوي لفلسطين، حيث أشارت إلى أهمية انعقاد هذه الدورة بالذات، بالنظر إلى سياقاتها الزمنية والسياسية المتزامنة مع الحرب الإسرائيلية على غزة واستمرار الاعتداءات في الضفة الغربية. وأكدت حمدان أنّ المنتدى يسعى إلى أن يكون منصّةً علميّةً مرجعية، تغطي جوانب مختلفة من القضية الفلسطينية، وتفتح المجال أمام طرح أوراق بحثيّة جديدة تقدّم قراءات ومقاربات متجدّدة حول ما يعرف بـ “الصراع العربي – الإسرائيلي”
وأوضحت حمدان أنّ اللجنة العلمية للمنتدى تلقّت أكثر من 560 مقترحًا بحثيًا، قُبل منها نحو 220 مقترحًا، وصل منها إلى مرحلة المشاركة الفعلية أكثر من 90 ورقة بحثية، توزّعت على جلسات متعدّدة ومختلفة على امتداد أيّام المنتدى السنوي لفلسطين. كما نوّهت إلى التأثير المباشر للحصار والعدوان الإسرائيلي المستمر، والذي حال دون تمكن عدد من المشاركين في قطاع غزة والضفة الغربية من الحضور شخصيًا، ليتم التواصل معهم عبر تقنيات بديلة أتاحها المنظمون.
في كلمته الافتتاحية، حرص الدكتور طارق متري (أستاذ جامعي ووزير لبناني سابق) على إبراز الدور المحوري الذي تلعبه مؤسسة الدراسات الفلسطينية في توثيق الانتهاكات الإسرائيلية وفضح جرائم الحرب والإبادة بحق الشعب الفلسطيني. وأكّد أنّ عقد هذا المنتدى يأتي مباشرةً عقب بدء سريان وقفٍ هشٍ لإطلاق النار في غزة، وهو وقف لم يُبدّد المخاوف المستمرة لدى الفلسطينيين في الضفة الغربية أو في القطاع نفسه، مشيرًا إلى أنّ “العدوان الصهيوني لم ينحسر بعد.”
وأضاف متري أنّ الحوارات الأكاديمية والبحثية التي تشهدها الدورة الثالثة للمنتدى تكتسب بُعدًا إضافيًا في هذا التوقيت، إذ إنها تمثّل فرصة لإعادة طرح الأسئلة الكبرى حول مستقبل القضية الفلسطينية في ضوء التحولات الميدانية والسياسية. ونبّه إلى أنّ ما تمكّنت الحكومة الأميركية من أخذه “من يد إسرائيل في قطاع غزة، تعطيها إيّاه عبر إطلاق يدها الأُخرى في الضفة الغربية”، ما يعكس نهجًا دوليًا غير متوازن يكتفي بالضغط المحدود على الاحتلال في جبهة، بينما يترك له حرية الحركة في جبهة أُخرى.
وتطرّق متري إلى الجهود التي بذلتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية في إطار توثيق حرب الإبادة التي تعرض لها قطاع غزة، وما صاحب ذلك من استهداف طال مجالات التعليم والصحة والثقافة والزراعة، فضلًا عن انتهاكات واسعة النطاق تعرّض لها الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية. وشدّد على أن هذا التوثيق ليس مجرّد عملية أرشفة فحسب، بل هو خطوة أخلاقية وسياسية تهدف إلى حماية الحقيقة من التزييف، وترسيخها في سجلات التاريخ بوصفها حقًّا لا يموت.
ألقى المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة محاضرته الافتتاحية أمام حشد كبير من الباحثين والمهتمين، مبيّنًا أنّ العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، الذي وصفه بـحرب الإبادة الجماعية، كشف عن جملة من النقاط المفصلية التي باتت تفرض نفسها على أيّ قراءة مستقبلية للقضية الفلسطينية. ولفت الانتباه إلى أنّ اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت جاء بعد مفاوضات صعبة وصمود استثنائي من الفلسطينيين، في حين لم يتورّع الاحتلال الإسرائيلي عن استعمال كلّ الوسائل الممكنة لفرض أهدافه العدوانية، بما فيها تدمير البنى التحتية وفرض مزيد من المعاناة على السكّان.
وأكد مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أنّ إسرائيل عجزت في هذه الحرب عن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أو إسكات المقاومة عمومًا، بل إنّ المقاومة في قطاع غزة ازدادت تنظيمًا وتماسكًا، الأمر الذي فاجأ المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وحذّر في الوقت نفسه من أنّ “الضفة الغربية ستدفع ثمن اضطرار إسرائيل إلى وقف الحرب في غزة”، ما ينذر بتصعيد مقبل في الأراضي المحتلة الأخرى، قد يكون أكثر ضراوة في ظل غياب تحرّكات دولية حازمة.
وفي سياق قراءته للتحولات الكبرى بعد 7 أكتوبر 2023، أوضح بشارة أن إسرائيل بدت وكأنها اتخذت رد فعل “ثأري” شامل، مستخدمةً خطاب “الدفاع عن النفس” لتبرير عمليات القتل والتدمير التي شملت المدنيين. وأشار إلى تواطؤ أميركي ودولي جزئي، عمّق من آثار هذه الحرب وجعل إسرائيل أكثر تجاسرًا في توسيع عملياتها. وأكدّ أنّ ما بعد 7 أكتوبر لن يشبه ما قبله؛ فقد ظهرت القضية الفلسطينية مجدّدًا على الأجندتين الدولية والإقليمية، ما يستوجب استثمار هذا الزخم في وضع العالم أمام ثنائية: إمّا التوجّه إلى حل عادل، وإمّا استمرار الكارثة.
كما تطرّق بشارة إلى حالة الانقسام الداخلي، معتبرًا أن القيادات الفلسطينية الحالية لم تتمكّن حتى الآن من تجاوز خلافاتها وإيجاد مظلّة وطنية شاملة تقود العمل السياسي والميداني. ورأى أنّ منظمة التحرير الفلسطينية تراجعت وتعرّضت للتصفية المتدرّجة على مدى العقدين الأخيرين، وسط غياب إرادة واضحة لإحيائها أو استثمارها كإطار جامع. وحثّ بشارة على ضرورة رأب هذا الصدع الداخلي لمنع إسرائيل من تحويل مأزقها إلى مأزق فلسطيني، وصولًا إلى إجهاض أي محاولةٍ لتحرير الرواية الإسرائيلية من وصمة الإبادة.
أمّا على الصعيد الدولي، فقد سلط بشارة الضوء على الموقف الأميركي الذي وصفه بـ“المتميّز”، مشيرًا إلى أنّ العناصر الأيديولوجية في السياسة الأميركية تجاه إسرائيل تجاوزت المصالح الجيو-استراتيجية، وذلك نتيجة انحياز كامل للرواية الإسرائيلية، بما في ذلك الاستعداد لترديد الأكاذيب وتبرير الجرائم. وأكّد أيضًا تدهور صورة الإدارة الأميركية عالميًا بسبب هذا الانحياز، في وقت تتزايد فيه الأصوات الغربية الشعبية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، والتي لم تصل بعدُ إلى مرحلة التأثير السياسي الحقيقي.
شهد المنتدى السنوي لفلسطين سلسلة من الجلسات التي عالجت واقع القضية الفلسطينية وحرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على غزة. وقد شملت تلك الجلسات على سبيل المثال: حرب الإبادة الجماعية على غزة والتدمير الثقافي والمادي، كما تطرقت لـ “حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من التأسيس إلى طوفان الأقصى: التحولات الاستراتيجية والسياسية” وغيرها من المحاور التي عالجت جوانب عدة للقضية الفسطينية، مرورا بـ “سياسة ترامب في عهدته الثانية تجاه القضية الفلسطينية: أيّ آفاق؟” تناولت الكيفية التي قد تتعاطى بها الإدارة الأميركية مع الملف الفلسطيني، في ضوء استمرار الانحياز الواضح لإسرائيل، واحتمالات تعميق “اتفاقيات أبراهام” ومشاريع التطبيع الإقليمي على حساب الحقوق الفلسطينية.
أبرز ما ميّز المنتدى أيضا، حضور عددٍ من كبار المسؤولين القطريين والوزراء الذين أكّدوا مساندة قطر الدائمة للشعب الفلسطيني ودعمها كلّ الجهود التي ترمي إلى تحقيق وقف دائم لإطلاق النار ورفع الحصار عن قطاع غزة. وقد برز دور الدبلوماسية القطرية بوضوح في اتفاق التهدئة الذي جرى التوصّل إليه، إذ لفت الدكتور طارق متري في مداخلته إلى أنّ قطر لعبت دورًا مهمًّا في تيسير المفاوضات وجسر الهوّة بين مختلف الأطراف، وإن لم تتوقف المخاوف الفلسطينية من استمرار العدوان على نحو أشكال أخرى.
وشدّد المشاركون على ضرورة عدم الاكتفاء بالوقف المؤقت لإطلاق النار، بل البحث عن حلول عادلة تضع حدًّا لمعاناة الشعب الفلسطيني، سواء في غزة أو الضفة الغربية أو أراضي الـ48. وفي هذا الصدد، أشار أكثر من متحدث إلى أنّ المنتدى السنوي لفلسطين يشكّل فرصة للتحاور ووضع استراتيجيات وأفكار من شأنها أن تخترق حالة الجمود السياسي والدبلوماسي، وذلك عبر التلاقي بين النخبة الفكرية والمراكز البحثية الرئيسية في العالم العربي.
أكّد منظّمو المنتدى السنوي لفلسطين أنّ هذه الدورة الثالثة لم تكن مجرد تجمع أكاديمي، بل مثّلت قيمة مضافة إلى النقاش الفلسطيني والعربي والدولي، خصوصًا في ظل الظروف العصيبة التي يمرّ بها الشعب الفلسطيني. وقد أصبح المنتدى، كما وصفه المشاركون، رافدًا مهمًا للبحث العلمي حول فلسطين، إذ يرفده بخبرات من مختلف التخصصات، ما يسهم في تقريب وجهات النظر وتوحيد القراءات حول الأزمة ومسبباتها ومآلاتها المحتملة.
ووفق ما جاء في تصريحات المنظّمين، يُتوقَّع أن يظل المنتدى منصةً لاستقطاب الباحثين والمهتمين بمستقبل فلسطين وسياقاتها الدولية والإقليمية، وأيضًا حاضنة للأفكار الجديدة والخطط الاستشرافية التي يمكن أن تساهم في صياغة سياسات عربية مشتركة لدعم الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحرية والعدالة.
ويُنتظر أن تصدر عن المنتدى السنوي لفلسطين مجموعة من التوصيات والأوراق البحثية التي تم جمعها خلال الجلسات، لتُتاح للنشر في إصدارات متخصّصة، بهدف ترسيخ الحقائق وتوزيع المعرفة حول القضية الفلسطينية في الأوساط البحثية والإعلامية على نطاق أوسع. وفي ظل استمرار العدوان وغياب أي حلّ سياسي في الأفق، تبقى القضية الفلسطينية تتصدر هموم العالم العربي، ويبقى الرهان على جهود الباحثين والمفكرين والمؤسسات المدنية لمدّ الجسور بين الفلسطينيين وعموم الشعوب العربية والدولية، حتى تتضافر الجهود لإنهاء الاحتلال وإقامة سلامٍ عادلٍ يضمن للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.