وُوري جثمان الوزير والدبلوماسي الجزائري السابق أحمد طالب الإبراهيمي الثرى اليوم بالعاصمة الجزائرية، في جنازة مهيبة حضرها جمع من كبار المسؤولين والشخصيات الوطنية وأفراد من عائلته، إلى جانب مواطنين جاؤوا لتوديع أحد أبرز رجالات الفكر والسياسة في الجزائر المستقلة.

وشيّع الجزائريون الراحل أحمد طالب الإبراهيمي، الذي وافته المنية عن عمر ناهز 93 سنة، بعد مسيرة حافلة بالعطاء في ميادين التربية والثقافة والدبلوماسية، جمع فيها بين الفكر والإصلاح والعمل السياسي الهادئ والمستقل.

من هو أحمد طالب الإبراهيمي؟

أحمد طالب الإبراهيمي هو سياسي ومفكر جزائري بارز، يُعد من الشخصيات الوطنية التي ساهمت بعمق في بناء الدولة الجزائرية الحديثة بعد الاستقلال.

وُلد سنة 1932 في برج بوعريريج، وهو نجل العلامة الشيخ البشير الإبراهيمي أحد أعمدة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ما جعله ينشأ في بيئة مشبعة بالفكر الإصلاحي والوطني.

التكوين والنشاط الوطني

تخرّج أحمد طالب الإبراهيمي طبيبًا في فرنسا، غير أن نشاطه لم يقتصر على المجال العلمي، إذ كان من الفاعلين في صفوف الطلبة الجزائريين الداعمين للثورة التحريرية، وشارك في الدفاع عن القضية الوطنية في المحافل الأوروبية أثناء حرب التحرير.

خلال ثورة التحرير الجزائرية (1954–1962)، برز أحمد طالب الإبراهيمي كأحد الوجوه البارزة في صفوف الطلبة الوطنيين، إذ كان من المؤسسين الأوائل لاتحاد الطلبة الجزائريين الذين التحقوا بالكفاح المسلح في 19 ماي 1956، وهو التاريخ الذي أصبح يُعرف لاحقًا بـ “عيد الطالب” تخليدًا لتلك الخطوة التاريخية.

بسبب نشاطه السياسي ودوره في دعم الثورة، اعتقلته السلطات الاستعمارية الفرنسية سنة 1957، وظلّ في السجن إلى غاية 1961.

 وبعد الإفراج عنه، انضم إلى الحكومة الجزائرية المؤقتة، حيث بدأ أولى تجاربه الدبلوماسية من خلال مشاركته في أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة، مدافعًا عن قضية بلاده العادلة في المحافل الدولية.

مسار سياسي وطني

بعد الاستقلال، تولّى الإبراهيمي عدّة مناصب وزارية، كان أولها وزيرًا للتربية الوطنية (1965–1970)، حيث أطلق مشروع التعريب وإصلاح التعليم في الجزائر المستقلة.

ثم أصبح وزيرًا للإعلام والثقافة (1970–1977) وأسهم في بناء المؤسسات الإعلامية والثقافية الوطنية، قبل أن يُعيَّن وزيرًا للشؤون الخارجية (1982–1988).

 مثّل الجزائر خلال توليه حقيبة الخارجية في الساحة الدولية ودافع عن القضايا العربية والإفريقية على رأسها القضية الفلسطينية.

الفكر والمواقف

عُرف أحمد طالب الإبراهيمي بفكره الوطني المحافظ، ودعوته إلى إحياء القيم الحضارية الإسلامية وتعزيز الهوية الوطنية.

 ألّف العديد من الكتب الفكرية والسياسية، من أبرزها “مذكرات جزائري: أحلام ومحن” وثّق فيها محطات مهمة من تاريخ البلاد وشهاداته على مسارها السياسي والفكري.

الحضور في المشهد الوطني

ظلّ الإبراهيمي حاضرًا في الذاكرة السياسية والفكرية الجزائرية، حتى بعد انسحابه من المناصب الرسمية، إذ ترشّح للانتخابات الرئاسية عام 1999 قبل أن ينسحب احتجاجًا على ظروف تنظيمها.

وأعاد الإبراهيمي الترشح في رئاسيات 2004، لكن ملفه رُفض من طرف المجلس الدستوري بدعوى نقائص في الوثائق المقدمة، رغم اختفائها من مبنى المجلس الدستوري.

ومنذ ذلك الحين، واصل نشاطه الفكري ودعواته المتكررة إلى الحوار والمصالحة الوطنية.

الحراك الشعبي

في خضم الحراك الشعبي الذي اندلع في الجزائر سنة 2019 رفضًا لترشح الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة، برز اسم أحمد طالب الإبراهيمي كأحد الرموز الوطنية التي تمتعت باحترام واسع عبر مختلف الأطياف السياسية والفكرية.

فقد رأت فيه قطاعات من الحراك شخصية توافقية تجمع بين النزاهة التاريخية والخبرة السياسية، وقادرة على قيادة مرحلة انتقالية تحفظ الدولة وتستجيب في الوقت نفسه لمطالب الشارع.

وفي بيانات وتصريحات متتالية آنذاك، دعا الإبراهيمي إلى حوار وطني جامع يضمّ مختلف القوى السياسية والمجتمعية، مؤكدًا أن الشرعية الحقيقية تستمد من الشعب، وأن المخرج من الأزمة لا يكون إلا بتغليب المصلحة الوطنية وإقامة دولة القانون والعدالة الاجتماعية التي نادى بها شهداء الثورة.

برحيل أحمد طالب الإبراهيمي، تفقد الجزائر أحد رموز جيل التأسيس، وواحدًا من الأصوات التي مزجت بين الوطنية والفكر والإصلاح، تاركًا وراءه إرثًا ثقافيًا وسياسيًا سيظل حاضرًا في الذاكرة الجماعية للأمة الجزائرية.