في ظل التحولات الإقليمية المتسارعة وتزايد التحديات الأمنية، برزت الحاجة لدى العديد من الدول إلى مراجعة تشريعاتها المرتبطة بالأمن القومي.
الجزائر، بدورها، اختارت الدخول في هذا المسار بإعداد نصوص قانونية جديدة تحاكي هذه المتغيرات.
وقد صادق مجلس الوزراء، برئاسة الرئيس عبد المجيد تبون، الأحد، على مشروع قانون يتعلق بالتعبئة العامة، خطوة رآها البعض استباقية وضرورية لتعزيز الجاهزية الوطنية في مواجهة أي تهديد محتمل، معتبرين أن التوقيت يعكس وعيا رسميا بتعقيدات المرحلة القادمة.
في المقابل، اعتبر آخرون أن المشروع يفتح باب التساؤلات بشأن مدى توقع السلطات لاحتمالات تصاعد التوترات، ورأوا فيه مؤشرا على قراءة عميقة للسيناريوهات الإقليمية التي قد تفرض على الدولة تعبئة قواها في المستقبل القريب.
وفي خضم هذه القراءات لمختلفة، تواصلت “أوراس” مع خبراء في القانون والعلوم السياسية، لقراءك الأبعاد القانونية والسياسية لمشروع القانون، وموقعه ضمن منظومة الأمن الوطني.
ويُطرح تساؤل جوهري حول ما إذا كانت التعبئة العامة خطوة مرتبطة بتقديرات أمنية دقيقة أم إجراء وقائي يندرج ضمن التحديثات التشريعية العادية.
ولفهم أعمق للأبعاد المرتبطة بالتعبئة العامة، أوضح أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، رضوان بوهيدل، أن التعبئة العامة هي عملية شاملة تقوم بها الدولة لحشد مواردها البشرية والمادية والمعنوية لمواجهة تهديد أو حالة طارئة.
وأضاف في منشور له على صفحته على فيسبوك أن التعبئة العامة عادة ما تكون في حالات الحروب أو الكوارث أو الأزمات الكبرى، حيث يتم تحويل الطاقات المدنية إلى طاقات دفاعية لدعم الجهد الوطني على مختلف الأصعدة.
ويرى بوهيدل أن التعبئة لا تقتصر على الجوانب العسكرية فقط، بل تمتد إلى الاقتصاد والمجتمع والإعلام، مما يتطلب تكييف كل موارد الدولة لمتطلبات المرحلة.
وكتب الخبير بوهيدل موضحا، أن الحديث عن مشروع قانون التعبئة العامة في بيان الرئاسة يحمل رسالة سياسية واضحة موجهة لأطراف معينة، ويبدو أن الرسالة وصلت حسب تقديره.
وفي هذا السياق، أفاد المتحدث في المنشور ذاته أن عرض القانون لا يعني إعلان التعبئة حالياً، بل يؤكد على استعداد الدولة تشريعياً لأي تطورات مفاجئة في ظل توتر الأوضاع.
وأضاف بوهيدل في منشوره، أن تحقيق التعبئة يتطلب أولاً تعبئة بشرية عبر استدعاء المدنيين القادرين على الخدمة العسكرية أو المساهمة في الأعمال الداعمة.
كما أوضح أن الجوانب الاقتصادية تدخل أيضاً ضمن التعبئة، بتحويل القطاعات الإنتاجية لدعم المجهود الحربي وتأمين حاجيات الجبهة الداخلية.
وفي هذا الصدد، أشار بوهيدل إلى أهمية التعبئة النفسية والإعلامية، من خلال تحفيز الروح الوطنية، وتوحيد الخطاب الإعلامي لرفع معنويات المواطنين.
وأضاف أن التعبئة القانونية والإدارية ضرورية كذلك، عبر إصدار قوانين استثنائية وتنظيم المؤسسات لتلائم متطلبات الظروف الطارئة.
في إطار تحليل السياسات المتبعة في حالات “التعبئة العامة”،يشير المحلل وأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، حمزة حسام،، لـ”أوراس” إلى أن هذه الحالة تُعتبر استثنائية، حيث تخرج عن السياسات الروتينية المعتادة في الظروف الطبيعية.
ويعتبر حسام أن الحكومة تتخذ هذا القرار استجابة لتهديد كبير يتطلب إجراءات خاصة.
كما يوضح المحلل أن التعبئة العامة لا تقتصر على أوقات الحرب، بل يمكن أن تكون استباقية في فترة السلم، تحضيرًا لمواجهة تهديدات محتملة أو أزمات قد لا تحدث.
وهذا يبرز أهمية اتخاذ التدابير الوقائية لمواجهة أي طارئ.
وتزامن الإعلان عن هذا المشروع مع أول ظهور إعلامي لمدير المخابرات الخارجية في الجزائر، متحدثا في ملتقى نظمته الجزائر حول “المعلومات المضللة والأخبار الزائفة وتداعياتها على أمن واستقرار الدول”، بحضور مسؤولي أجهزة الاستخبارات الإفريقية.
وقال العميد رشدي فتحي موساوي، المدير العام للوثائق والأمن الخارجي، ورئيس إقليم شمال إفريقيا للجنة أجهزة الاستخبارات والأمن الإفريقية (سيسا)، إن الجزائر ستبقى في طليعة الدول الإفريقية المدافعة عن استقرار القارة في مواجهة المعلومات المضللة، معتبراً أن هذه الظاهرة لم تعد مسألة إعلامية فقط، بل تحولت إلى تهديد مباشر للأمن القومي.
وأوضح أن هذه الحملات تُستخدم للتشكيك في المؤسسات وزعزعة الثقة بين الشعوب وحكوماتها، مستغلة التطور التكنولوجي ووسائل الإعلام الحديثة، وخاصة الانتشار الواسع لمستخدمي الإنترنت من ذوي الوعي المحدود.
ودعا موساوي إلى تطوير برامج توعية وتثقيف المواطنين للحد من تأثير التضليل، والعمل على وضع إطار قانوني وتشريعي لمواجهة نشر الأخبار الكاذبة.
أفاد حسام بأن التعبئة العامة تشمل ثلاثة أنواع رئيسية من الإجراءات: الأول يتعلق بتعبئة الموارد البشرية، مثل استدعاء جنود الاحتياط.
الثاني يشمل تأمين الموارد الاستراتيجية، مثل المواد الغذائية، لضمان استمرارية الإمدادات في حالات الطوارئ.
الثالث يرتبط بتطبيق سياسات الطوارئ التي تمنح سلطات إضافية للعسكريين والأمنيين مقارنة بالسياسيين في الحالات الروتينية.
بخصوص أمثلة التعبئة العامة عبر التاريخ، ذكر بوهيدل في منشور أخر على صفحته على فيسبوك أن فرنسا خلال الثورة الفرنسية عام 1793 أعلنت تعبئة شاملة للدفاع عن الجمهورية الوليدة ضد تحالفات ملكية أوروبية.
كما أوضح أن ألمانيا في الحرب العالمية الأولى عام 1914، قامت بتعبئة ملايين الجنود وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد حربي متكامل لدعم العمليات العسكرية ضد الحلفاء.
وأشار إلى أن الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية سنة 1941، وبعد اجتياح القوات النازية، لجأ إلى تعبئة شاملة للمجتمع حيث شارك الرجال في الجبهات والنساء في المصانع.
وذكر بوهيدل أن الولايات المتحدة أعلنت تعبئة عامة بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربر سنة 1941، فشهدت البلاد تجنيداً واسعاً وتحويلاً ضخماً للاقتصاد نحو الإنتاج العسكري.
وبهذا الخصوص، أفاد بوهيدل أن مصر أعلنت التعبئة العامة مرتين، الأولى أثناء العدوان الثلاثي سنة 1956 والثانية خلال حرب أكتوبر 1973، دفاعاً عن السيادة واسترداداً للأراضي المحتلة.
وأضاف بوهيدل أن كوريا الشمالية، بسبب التهديدات المستمرة من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، تعتمد تعبئة دائمة تتجسد في عسكرة المجتمع واستخدام الإعلام لخدمة الأيديولوجيا الدفاعية.
من جانبه، اعتبر أستاذ القانون الدستوري بجامعة الجزائر، موسى بودهان، أن التعبئة العامة في الجزائر لم تحدد من قبل تفاصيلها ولا ضوابطها بشكل دقيق.
وأكد بودهان في تصريح لـ”أوراس” أن مبادرة سن مشروع قانون خاص بهذا الموضوع الحيوي والاستراتيجي تعد خطوة هامة في حياة الشعب الجزائري ومؤسسات الدولة.
وأضاف أن المرحلة الراهنة تتطلب اتخاذ كل الاحتياطات والإجراءات اللازمة، تحسباً لأي طارئ، خاصة ما يتعلق بالحالات الخاصة والاستثنائية التي أشار إليها الدستور في مواده 97 و98، والمادة المتعلقة بالتعبئة.
وأوضح أن هذا المسعى يندرج ضمن إطار الاحتياطات الوقائية وسن القوانين الاستباقية لمواجهة أي أوضاع غير متوقعة.
وبخصوص توقيت إعلان التعبئة، أفاد بودهان أن القرار لا يتم إلا وفق الشروط المنصوص عليها صراحة في المادة 99 من الدستور.
وأشار إلى أن رئيس الجمهورية هو من يقرر إعلان التعبئة العامة في مجلس الوزراء، بعد الاستماع إلى المجلس الأعلى للأمن واستشارة رئيس مجلس الأمة ورئيس المجلس الشعبي الوطني، وربما _الوزير الأول أيضاً_ وفق تصريحه.
وأضاف أن لا شيء يدعو للخوف أو القلق، موضحاً أن المسألة تتعلق فقط بإعداد إطار قانوني ينظم هذه الحالة تحسباً لأي طارئ مستقبلي.
ولفت إلى أن هناك مواد دستورية تنص على هذه الحالات لكنها تبقى مجرد مبادئ عامة، ولابد من الإسراع في سن قوانين تفصيلية تترجمها إلى نصوص عملية.
وأكد أن الدستور يرسم المبادئ والخطوط العريضة، بينما التوضيحات التفصيلية تأتي عبر القوانين التي يتم سنها لاحقاً.
أوضح المحلل السياسي حمزة حسام، أنه وفقًا للعديد من المؤشرات الإقليمية والدولية، الجزائر قد تكون في وضع يتسم بتهديدات عالية المستوى، مع احتمالات مرتفعة لحدوث هذه التهديدات.
وفي هذا السياق، يعتبر أن سيناريو الحرب العالمية أصبح في طليعة النقاشات العالمية في أكبر دوائر القرار، وهو ما يثير تساؤلات حول كيفية استعداد الجزائر لهذا السيناريو.
وأشار حسام إلى أنه لا يُستبعد أن تكون الدوائر الضيقة لصناع القرار في الجزائر تقيّم الوضع الأمني والاستراتيجي باعتباره استثنائيًا، مما يستدعي اتخاذ إجراءات استثنائية. ومن هنا، يصبح الاستعداد للتعبئة العامة المنصوص عليها في المادة 99 من الدستور أمرًا بالغ الأهمية، حيث من الضروري تحديد الأحكام المتعلقة بكيفيات تنظيمها وتنفيذها، لتكون الجزائر جاهزة عندما يصبح اتخاذ قرار التعبئة أمرًا لا مفر منه.
بالمقابل أشار بوهيدل إلى أن بعض الدول قد تلجأ إلى مفهوم “التعبئة العامة” خارج السياقات العسكرية، مثل الصين خلال جائحة كوفيد-19 حين أعلنت تعبئة وطنية للقطاع الصحي والمجتمع، أو خلال كفاح الدول الإفريقية ضد الاستعمار عبر تعبئة شعبية وثقافية لمواجهة الاحتلال.
وفي رسالة طمأنة للرأي العام، أجمع المتابعون على أن هذه الخطوة تندرج ضمن مسعى تحديث المنظومة القانونية الوطنية بما ينسجم مع مقتضيات السيادة وحماية الأمن الوطني.
مناجم الجزائر تحت المجهر.. مشروع قانون لجذب الاستثمارات الأجنبية
الرئيس تبون يدق ناقوس الخطر.. العالم العربي في مفترق الطرق
لأول مرة قمة روسية عربية.. بوتين يوجه دعوة رسمية للقادة العرب
بن طالب يغيب في يوم دعم المثلية ويخلق ضجة جديدة في فرنسا
عباس يدعو لوقف دائم لإطلاق النار وتسليم غزة للسلطة الفلسطينية