لم تكن صورة الجزائر في العقدين الماضيين ناصعة كما هي عليها اليوم، غَدت قِبلة الزعماء العرب ومحط أنظار المراقبين ورقما صعبا في جوارها الحيوي. فقد عرفت الجزائر انحطاطا غير مسبوق في السنوات الأخيرة لحكم بوتفليقة، سيطر من خلاله زمرة من النافذين على مفاصل الدولة وتحكموا في مواردها وذهبوا بها إلى مغامرة غير محسوبة العواقب، وأداروا ظهورهم لملايين الجزائريين الذين نادوا بمغادرة آل بوتفليقة، ولم يستجيبوا لعشرات الندوات والمبادرات التي حذرت من مصير مُظلم للبلاد إن هم أصرّوا على مخططاتهم! حتى جاءهم الحراك.
ولم يكن الوضع سهلا حتى بعد قطع الطريق على عهدة خامسة لبوتفليقة، فقد طالب الحراك بمغادرة الرئيس ورفض التمديد، ولم يستجب لوعود الإصلاح والتغيير وطالب بانتخابات نزيهة وبمحاكمة رموز الفساد والزج بهم في غياهب السجون.
اليوم، تمر 60 يوما على تنصيب رئيس جديد للبلاد، في تتويج لمسار عسير من المفاوضات والتنازلات والهفوات والكبوات والإنجازات والإخفاقات، فما الذي ميّز فترة الشهرين في حكم عبد المجيد تبون؟
أطلق تبون حوارا فريدا، فقد شهد مقرّ الرئاسة حركة غير معهودة، شخصيات وطنية مرموقة حطت رحالها هناك بدعوة من الرئيس، حملت ما بجعبتها من أفكار واقتراحات لحلحلة الوضع والخروج من عنق الزجاجة، أغلب هؤلاء من الذين رفضوا مسار الانتخابات لكنهم قبلوا بمبدأ الحوار كقيمة سياسية واجتماعية لا يرفضها عاقل.
الأحزاب السياسية الكبرى وطأت العتبة ذاتَها، فقد استقبل الرئيس وفودا عن حركة مجتمع السلم وجبهة العدالة وجبهة المستقبل وطلائع الحريات وغيرها من الأحزاب.
نجح تبون إلى حد كبير في جمع الطبقة السياسة على طاولة الحوار مع الرئاسة، وهذا هو المسار الوحيد للدفع بعجلة التعاطي السياسي نحو الأمام وعدم انتظار الوقت الضائع الذي سيضر بالجميع.
ولعل أبرز ما ينتظره المجتمع والطبقة السياسية هو دستور جديد للبلاد يعكس صدى الشارع وأصوات الملايين من الجزئريين الذين اكتووا بظلم الإدارة وتقاعس السياسيين، ولم يجدوا من سبيل لثني السلطة عن “غيّها” سوى الشارع.
النقاش الذي أطلقه تبون يعطي ملامحا عامة عن الدستور الذي وعد به، وعن علاقة السلطات الثلاث وشكل نظام الحكم وموقع سلطة الشعب في أجهزة الدولة، وسيكون أول اختبار حقيقي للرئاسة أمام الطبقة السياسية هو دستور “ثوري” يمثل بحقّ “الدولة الجديدة”.
ما يهم المواطن اليوم هو شعوره بسلطة القانون وأن يعرف أن عهد النافذين قد ولّى، وأن القضاء لن يستجيب لهاتف الليل، وأن قوانين بلده مرنة ومتطورة، وأن العيش في الجزائر سيكفل له حقوقه السياسية والاجتماعية وأن الفاسدين سيجدون طريقهم إلى السجن والمحاسبة، وألَا سلطة تعلو سلطة القانون!
غابت الجزائر سنوات طويلة عن جوارها الحيوي، فاشتعلت النار في ليبيا حتى كاد اللهب يصيب أجزاء من أرضنا وتحولت تونس تحولا لافتا في مجال الحريات وحقوق الإنسان والممارسة الديمقراطية، وقطع المغرب أشواطا في الاقتصاد والتواصل مع دول إفريقيا، وتحركت دول إفريقية أخرى فصنعت مجدا مبهرا على غرار إثيوبيا، وبقيت الجزائر تراوح مكانها وتراقب ما يحصل في جوارها!
لقد ألقى الحراك حجرا في المياه الراكدة ورفع شعارات في صميم السياسة الخارجية للبلاد، فانتصر لفلسطين وحذّر من تهور الفصائل الليبية المسلحة وتغوّلها على المؤسسات الشرعية للبلاد، وفتح ذراعيه للأشقاء يمينا وشمالا، وانتقد الظلم في بقاع الدنيا الأخرى، حتى تبنى مرشحو الرئاسة هذا الخطاب ووعدوا بتجسيده.
استعادت الجزائر دورها بسرعة بالغة بعد أسابيع من تنصيب تبون، فقد أعلن الرئيس أن البلاد معنية بما يجري في ليبيا، ودُعيت البلاد إلى مؤتمر برلين، وقدمت اقتراحات لحل الأزمة الليبية واعتمدت الحوار والمسلك الديبلوماسي ورقة طريق إلى تسوية النزاع.
وفي فلسطين، رفضت الجزائر ما سُميّ بصفقة القرن وأكدت على الحل ضمن المبادرة العربية، واستمرت في دعمها للسلطة الفلسطينية.
وفي المغرب، أكدت الجزائر على حسن الجوار وعلى تجاوز الخلافات السياسية وعلى مبدأ “التراجع عن الخطأ” واستمرت في دعم الشعب الصحراوي ضمن رؤية الأمم المتحدة.
وفي تونس، ألقت البلاد بثقلها بعد زيارة الرئيس التونسي إلى الجزائر، فساعدت الأشقاء بوديعة قيمتها 150 مليون دولار لضمان قروض خارجية، وأكدت على دعمها لصمود تونس وازدهارها.
وتحولت البلاد إلى قبلة سياسية، فزارها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس التونسي قيس السعيد، واستقبل تبون رئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج، وعددا من وزراء الخارجية والسفراء والمبعوثين، كما استقبل في أديس أبابا الوزير الأول الفلسطيني مجددا له دعم الجزائر للقضية الفلسطينية.
كل هذا حدث في شهرين فقط! وتمضي الجزائر في سياستها الخارجية القائمة على تغليب المصلحة العليا للبلاد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والاستمرار في دعم التحرر وتصفية الاستعمار.
وهنالك وراء البحار، عاد ملف الذاكرة إلى الواجهة مجددا، فالمستعمر القديم أبدى استجابة محتشمة للاعتراف بجرائمه المرتكبة في حق الجزائريين، والحراك لم يهدأ له بال منذ اندلاعه مؤكدا أن جيل اليوم لم ينقطع عن تاريخه ولم ينس لفرنسا جرائمها.
ويبدو أن الرئيس التقط رسالة الحراك، إذ تناقلت وسائل الإعلام تصريحا لافتا للرئيس قال فيه إن الجزائر ليست محمية فرنسية مضيفا أن الجزائريين باتوا حساسين لكل ما يأتي من فرنسا لاسيما بعد الحراك. جاء هذا بعد تلكؤ باريس وتثاقلها عن تهنئة تبون بفوزه، لتكون العاصمة الوحيدة تقريبا التي تأخرت تهنئتها!
ويعتقد مراقبون أن العلاقات بين باريس والجزائر ستشهد فصلا آخر يقوم على “الندية” وعلى إعلاء مصلحة الجزائر، لكن دون صدام، فالرئيس أكد أن العلاقات بين البلدين جيدة وأن كلا الدولتين بحاجة إلى بعضهما البعض، وأن ملف الذاكرة يجب أن يُغلق باعتراف صريح من باريس.
لا يمكن إخفاء أن جزءا هاما من الحراك اختار الذهاب إلى صناديق الاقتراع في رئاسيات 2019، كما اختار بعض الباقين الاستجابة للحوار مع الرئيس المنتخب، بينما رفضت طائفة أخرى كل المحطات الماضية.
هؤلاء جميعا هم “الحراك”، ولا يمكن لطائفة أن تستأثر لنفسها بالمجد ولا يسمح لجهة في أن تخوّن جهة أخرى، فالذين انتخبوا يراقبون أداء الرئيس وحكومته وهم مقتنعون بما فعلوا، لكن هذا لا يُعتبر صكا على بياض لتبون، فالسياسة تضعك في الموالاة صُبحا وتجعلك في المعارضة ظهرا.
هؤلاء جميعا يراقبون الوضع عن كثب، ويتطلعون لمزيد من الضمانات والإنجازات، ولعل أبرزها:
أولا: الانفتاح الإعلامي، فالزمرة التي أحاطت ببوتفليقة وزّعت الإشهار العمومي على من رضيت من المؤسسات الإعلامية، وعاقبت من رفضت الإملاءات، وهذا مسلك الطغاة وديدن الخائفين، ولم يصمد هذا الجبروت طويلا حتى أطاح الحراك بقلعته “المصونة بأموال الشعب”.
على الرئيس اليوم أن يُرصي قواعد الانفتاح الإعلامي، ويحارب التضييق على الصحافيين ويحرص على توزيع عادل للإشهار العمومي، وقد بدأت مبشرات هذا الانفتاح بتوجيه الرئيس لفتح ملف المواقع الإلكترونية الإخبارية وملف الإشهار العمومي.
ثانيا: تحرير القضاء، فعدالة الليل يجب أن تنتهي ويحاسب أي مسؤول تنفيذي على تدخله في القضاء لتوجيه سياط الدولة إلى خصومه، فلا دولة من غير قانون ولو صمدت عشرين عاما لا بد لها من حراك يزلزل أركانها.
ثالثا: إطلاق الحريات الفردية والجماعية، فسلوك القمع قد ولّى، والجزائريون كسروا جدار الخوف وأعلنوا انخراطهم في الشأن السياسي، وعلى الدولة اليوم أن ترعى حق التعبير وحق التجمهر والإضراب والاحتجاج السلمي، وأن تفتح حوارا سريعا وجديا مع الجبهة الاجتماعية التي ورّثها بوتفليقة، وأن لا تُلقي باللائمة على المحتجين.
رابعا: دعم التحول الديمقراطي عبر إتاحة الفرصة لأصوات جديدة من الشباب لتأسيس أحزاب وجمعيات، وأن تقف الدولة بالمرصاد للمال الفاسد الذي عفّن الحياة السياسية، وأن تتصدى لأي تدخل أجنبي لاسيما من الدول الطامعة في خيرات الجزائر والمدعمة لإيديولوجيات هدامة للمجتمع، وأن تدعم بشكل مباشر الحياة السياسية الناشئة.
خامسا: تحسين حياة الناس، فلا حاجة للجزائريين بثورة ولا بحراك ما لم تتحسن حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، على دولة اليوم أن ترفع من القدرة الشرائية للمواطن وأن تواصل دعمها للسلع الأساسية واسعة الاستهلاك وأن ترفع يدها عن تقييد النشاط الاقتصادي، وأن تدفع باتجاه خلق الثروة وأن تحارب الفقر وتواصل دعم الفئات الهشة.
لقد بدأت الدولة فعلا في إرساء هذه المعالم لكنها بحاجة إلى الذهاب إلى سرعة ثانية أو الاستعداد لمواجهة ثانية!
60 يوما في حياة الرئيس عبد المجيد تبون كانت كافية لمعرفة نوايا الرجل وخططه لتغيير ملامح الدولة، فالجزائر استعادت دورها الإقليمي خارجيا، وفُتحت قنوات التواصل والحوار داخليا، وبدأ المواطن يشعر بوجود رئيس يمكن مخاطبته ومطالبته ومحاسبته، لكن هذا ليس كافيا، إذ يجب الذهاب إلى سرعة ثانية تدفع المرتابين إلى اللحاق بالركب.
على رأس تطلعات الجزائريين اليوم الذهاب إلى انتخابات برلمانية نزيهة وحل البرلمان الحالي الذي فُصّل على المقاس، ومازال يمارس مهامه التشريعية رغم عدم شرعيته “شعبيا”، ومواصلة محاكمة رموز الفساد وعدم مقايضتهم، وتطهير الساحة السياسية من بقايا العصابة، ورفع عصا الأمن عن المحتجين وعدم قمع أي شكل من أشكال الاحتجاج ما لم تتعطّل مصالح الناس أو يتم التعدي على الممتلكات العامة والخاصة، فالقمع حجة الضعيف ولا يتولّد منه إلا الاحتقان والعنف.
لا شيء يحجب الحقيقة البازغة اليوم، نحن أمام دولة جديدة، وزراء يخوضون حربا ضد الفساد في دوائرهم الوزارية، وولاة ينزلون القرى والمداشر، ومسؤولون محليون يُعلُون صوت القانون ومصلحة المواطن الذي أصبح صوته مسموعا، وحكومة نشطة سياسيا واجتماعيا، ومعارضة ناضجة (كانت وستبقى) ورئيس شرعي يُصغي للجميع ويتواصل مع المواطنين.
على الجزائريين اليوم مواصلة بناء هذه الدولة والعبور بها إلى مصاف الدول المنفتحة والفاعلة، فقد حِيزت لنا الدنيا بحذافيرها، لدينا من الموارد البيئية والبشرية ما يجعلنا الأبرز في محيطنا، وحظينا بجزء هام من المكاسب السياسية يؤهلنا إلى الطموح في انتقال ديمقراطي نموذجي، ويحذونا الأمل بشكل أكبر في بناء دولة الشهداء كما حلم بها بن مهيدي وديدوش وكما أرادها المخلصون في ربوع الوطن.
عبد القادر بن خالد، صحافي جزائري وخبير في الإعلام الرقمي، ساهم في الانتقال الرقمي لقناة الجزيرة بعد انضمامه لها سنة 2014 وعمل رئيسا لقسم التواصل الاجتماعي بالجزيرة نت قبل استقالته نهاية 2021، يعمل حاليا مديرا للابتكار والنمو في مؤسسة فضاءات إحدى أكبر المجموعات الإعلامية في المنطقة العربية.