span>غليان شعبي وانسداد في البرلمان الفرنسي.. هل هي أزمة نظام سياسي؟ فيصل إزدارن

غليان شعبي وانسداد في البرلمان الفرنسي.. هل هي أزمة نظام سياسي؟

لم تتمكن أحزاب المعارضة في الجمعية الوطنية الفرنسية(البرلمان الفرنسي)، يوم الإثنين الماضي، من إسقاط الحكومة بعد التصويت على لائحتي حجب الثقة، التي تقدمت بها كل من المجموعة البرلمانية للأحرار(LIOT)، وحزب التجمع القومي بزعامة مارين لوبان (Rassemblement National)، رغم وجود حظوظ لحصولها على الأغلبية، ولكنها أضحت ضئيلة.

أزمة مشروع أم أزمة نظام؟

تعيش فرنسا أزمة سياسية حقيقية على خلفية القطيعة التي نشأت بين الحكومة من جهة وأحزاب المعارضة السيارية والنقابات العمالية لكل القطاعات المهنية من جهة ثانية.

من أهم نقاط الخلاف بين الحكومة من جهة والأحزاب اليمينية والنقابات المهنية والأحزاب اليسارية من جهة أخرى، الحد الأقصى لسن التقاعد، وطريقة تموين صناديق التقاعد، بحيث اقترحت الحكومة أن تمون من الاقتطاعات المالية والتحويلات الاجتماعية المباشرة، وكذا إلغاء الأنظمة الخاصة بما يسمى بالأعمال المضنية، ولقد استطاع مجلس الشيوخ ذات الأغلبية اليمينية من تمرير هذه النقاط.

لقد لاقى الرئيس ماكرون العتاب من طرف النقابات والأحزاب اليسارية وأطياف سياسية أخرى، ففي الوقت الذي أجرى الرئيس ماكرون زيارة رسمية لمملكة إسبانيا بمعية 11 وزيرا من طاقم حكومته، في بداية الاحتجاجات، أجمعت أغلب النقابات على النجاح الباهر للمظاهرات التي شهدتها فرنسا لحد الساعة في جميع ربوع البلاد، على خلفية رفضها لمشروع قانون التقاعد الذي اقترحته رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، بعد مشاورات وصفت بالفاشلة مع معظم النقابات العمالية.

المظاهرات من تنظيم تحالف ثمان نقابات عمالية نافذة من كل القطاعات المهنية، تتصدرها الكونفدرالية العامة للشغل والكونفدرالية الفرنسية الديموقراطية للشغل، وستليها تحركات، تتوعد الحكومة براديكالية أكثر في المواقف إذا لم تستجب الحكومة للمطالب العمالية، وعلى رأسها التراجع عن القانون وإجراء مشاورات أوسع وأعمق في موضوع التقاعد بحكم أنه يمس مستقبل الأجيال القادمة.

التضامن النقابي في أَوَجه

بدأت بوادر الأزمة تلوح في الأفق عندما أعلن الطاقم الحكومي باقتراح مشروع قانون التقاعد وبإيعاز من الرئيس إيمانويل ماكرون، علما أن هذا المشروع كان من ضمن الوعود الانتخابية للرئيس المترشح، أما القشة التي قسمت ظهر البعير هي التأكيد على إرجاء سن التقاعد إلى 62 سنة بدل 60 سنة المعمول به حاليا، الأمر الذي أثار حفيظة النقابات العمالية (خاصة قطاع التعليم، والنقل، والمحروقات، وقطاعات ذات النشاط المضني).

طيلة أسابيع، حاولت الحكومة عن طريق وزرائها وروافدها الإعلامية إقناع الرأي العام بأهمية هذا الإصلاح وبضرورة اعتماده لتفادي عجز مالي في آفاق 2030.

لقد كانت هناك معركة قانونية وسياسية داخل أروقة البرلمان بغرفتيه، وأخرى سياسية واجتماعية في الشارع، حيث حاولت تنسيقية النقابات التي ضمت 8 نقابات كبرى لم تجتمع بهذه الطريقة منذ 12 سنة، وحاولت بكل ما أوتيت من قوة من التأثير عبر تنظيم إضرابات، مسيرات شعبية وتجمعات كلما سنحت الفرصة لذلك.

من أكبر ضحايا هذه الأزمة، الحوار الاجتماعي الذي غاب عن الموعد بحسب المناوئين للحكومة، ليترك المجال لحرب الأرقام والإحصائيات، خاصة فيما يتعلق بالحد الأدنى لمنحة التقاعد، والذي سيصل إلى 1200 يورو حسب إطارات الحكومة، لكن سرعان ما كشفت المعارضة اليسارية عن التلاعب بالأرقام، ونددت بعدم تعامل الإدارة معها على النحو الذي يسمح بالولوج للبيانات الحكومية.

بعد التصويت على مشروع القانون مادة مادة في غرفة النواب، باشر مجلس الشيوخ عمله التشريعي، وبحكم وجود أغلبية يمينية تم التصويت على القانون بالأغلبية، لكن خلال عودة مشروع القانون إلى غرفة النواب مجددا للتصويت النهائي، فاجأت رئيسة الحكومة إليزابث بورن الجميع، حتى مؤيديها في الأغلبية الرئاسية، عندما تحملت مسؤوليتها في تمرير القانون من دون الرجوع إلى التصويت بمقتضى المادة 49 مكرر 3 من الدستور الفرنسي، التي تعطي الحق لرئيس الحكومة باعتماد القانون دون الرجوع إلى البرلمان، ما اعتبره الملاحظون انقلابا ناعما على ممثلي الشعب، وقفزا غير مشرف على الديموقراطية.

اعتبرت المعارضة اللجوء إلى هذه المادة الدستورية في تمرير قانون حيوي مثل قانون التقاعد، الذي سيحدد مصير الأجيال القادمة، بمثابة فشل ذريع للرئيس ماكرون في تحقيق الإجماع حتى داخل صفوفه، رغم احرازه على أغلبية برلمانية تضم أحزاب الموالاة.

بقية العهدة الرئاسية لن تكون سهلة

في انتظار خروج إيمانويل ماكرون عن صمته، ثمة أصوات من قصر الإليزيه تستبعد أي تغيير في الخط السياسي للرئيس ماكرون، رغم الغليان الشعبي وعزم الأحزاب اليسارية واليمين المتطرف من خوض معركة قانونية على مستوى المجلس الدستوري لإلغاء القانون، فكل المعطيات توحي بوجود مواجهة حقيقية في الميدان بين النقابات التي لم تقل كلمتها الأخيرة والحكومة التي تستند إلى الشرعية الدستورية لرئيس الجمهورية والقوة العمومية التي تم تعزيزها منذ أحداث السترات الصفراء.

الصحفي في صحيفة لوفيغارو، جورج مالبرونو، تحدث في تغريدة نشرها في شهر نوفمبر الماضي وأعاد نشرها قبل يومين، عن سيناريو تم تداوله في أروقة مصالح الاستعلامات، مفاده أن ماكرون قد يخطط لتمرير القانون ذاته باستعمال المادة الدستورية 49 مكرر 3، وتحسبا لتصاعد الأزمة السياسية سيعمد إلى حل البرلمان الفرنسي والإعلان عن انتخابات برلمانية مسبقة، ثم الاستقالة من منصب رئاسة الجمهورية ليتسنى له الحال للترشح مرة أخرى.

فيصل إزدارن

دكتور باحث في علم الاجتماع السياسي - باريس

شاركنا رأيك