إن ميزانية 2025 تعد الأكبر من حيث حجم الاعتمادات المقدر بـ: 16795 مليار دينار أي حوالي 126 مليار دولار، بالمقارنة مع السنة الماضية 113 مليار دولار، وإيرادات متوقعة تقدر ب 8523 مليار دينار، ومستوى عجز متوقع قد يصل إلى 8272 مليار دينار، مع العلم بأن الكثير من البلدان، وحتى المتقدمة منها، تدير موازناتها عن طريق العجز المستهدف المرتبط بطبيعة الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والتحديات الخارجية.
إن الوضع يتطلب الانتقال التدريجي من الأدوات التمويلية القائمة على المديونية، إلى الأدوات القائمة على الملكية والاقتصاد الحقيقي.
سنعرض مجموعة من الاقتراحات لترشيد النفقات، وزيادة الإيرادات العامة، بوسائل غير تقليدية، وسوف نركز على بعضها في النقاط التالية:
التمويل عن طريق الصكوك السيادية، وصكوك الشركات، لدعم الاستثمارات الحقيقية من مصادر خارج الموازنة العامة للدولة، وذلك لاستقطاب جزء هام من الموارد المالية في السوق الموازية من جهة، واستقطاب حصة من حجم الصكوك الاستثمارية الإسلامية في الأسواق الإقليمية والدولية من جهة أخرى، والتي تجاوزت قيمتها 850 مليار دولار سنة 2023.
وهي متنوعة الأنشطة، متعددة الأساليب التمويلية، ومتفاوتة المدد الزمنية، فضلا عن ارتباطها بالاقتصاد الحقيقي، وتتكامل مع مسار استكمال مؤسسات الصناعة المالية الإسلامية، و هي فرصة لتحويل الاقتصاد الجزائري إلى قطب إقليمي لإصدار الصكوك السيادية، وصكوك الشركات، لتلبية الاحتياجات التمويلية الوطنية والإقليمية، وهذا يعد أهم مشروع لترقية التنافسية المالية والمصرفية، التي تتكامل مع أقطاب الإصدار في أسواق الاتحاد الأوروبي، والشرق الأوسط، وآسيا، وأمريكا.
التمويل عن طريق صناديق الاستثمار في ظل تطوير دور بورصة الجزائر، وتأطير السوق النقدية بالأدوات الكمية والكيفية والمباشرة الملائمة، والفرص الاستثمارية للاقتصاد الجزائري متاحة لاستقطاب حصة من موارد صناديق الاستثمار الإسلامية في السوق الدولية التي تقترب من 300 مليار دولار، فضلا عن صناديق الاستثمار القائمة على استقطاب الموارد المالية المحلية في السوق الرسمية، والسوق الموازية.
إن الترخيص للخزينة العمومية بإصدار الصكوك السيادية، وما ارتبط به من حوافز مهمة، يتطلب الاستكمال بإصدار قانون متكامل خاص بصناعة الصكوك السيادية وصكوك الشركات، وصناعة صناديق الاستثمار، وهذا يوفر الإطار الملائم للقيام بالإجراءات القانونية، والمؤسسية، والتنظيمية، ويصبح هذا التحول أهم مشروع من حيث آثاره الاقتصادية والاستثمارية، والسياسية والدبلوماسية، بالمقارنة مع أدوات التمويل التقليدي التضخمي، والصكوك التقليدية.
تسريع عمليات الرقمنة المالية القطاعية، وإقامة هيئات الرقابة المالية المتخصصة، التي ستخفض التكاليف بنسبة قد تصل إلى 20%، لأن عمليات الرقابة المتخصصة، ستؤدي إلى تتبع الحركية القطاعية والمؤسسية لاستهلاك الاعتمادات، والحد من الأشكال الجديدة لتضخيم تكاليف المشاريع، وتضخيم تكاليف أشغال الصيانة، والترميم، والاستبدال، وتكاليف المشتريات، والازدواجية، والتكرار، والاحتكار…، والتي لم تعد الوسائل التوجيهية، والإشرافية، والرقابية الحالية، قادرة على احتوائها، والحد منها، سواء تعلق الأمر بالهيئات الرقابية القبلية أو البعدية، أو مجالس إدارة المؤسسات والقطاعات، التي طغى عليها طابع الشكليات والمجاملات، ولم تعد تستجيب للمستجدات.
تساهم الرقمنة المالية القطاعية، والرقابة المالية المؤسسية المتخصصة في كل قطاع، في ضبط معايير الانفاق، وتوحيد التكاليف ومتابعتها، وتُضْفِي مزيدا من الشفافية الكاشفة للانحرافات، التي تعرقل تطور المؤسسات والقطاعات، وتعطل تجسيد الأهداف القطاعية الرسمية، وفي ذات الوقت تسهل عمليات الحوكمة المؤسسية المُبَينة للممارسات الجيدة التي تستدعي التدعيم والتعميم.
استخدام الطرق والتكنولوجيات الجديدة في قطاع البناء والسكن والبنية التحتية، من أجل الانتقال التدريجي، لتجسيد مخرجات الثورة الصناعية الثالثة والرابعة، والتي ستؤدي إلى تخفيض التكاليف، والاقتصاد في مواد البناء، وما يرتبط بها من خصائص جديدة ملائمة للأحوال المناخية، والظروف الطبيعية، والانتقال نحو الطاقات المتجددة بمصادرها المتعددة، وإقامة المدن الذكية، والقرى المستدامة، والمناطق السياحية، وهو ما شرعت فيه العديد من البلدان منذ أكثر من عشرين سنة.
ترشيد التكاليف العمرانية عن طريق الانتقال إلى مشاريع المدن الذكية السكنية، والرياضة، والسياحية، والقرى المستدامة المحيطة بها، بكافة متطلباتها الحديثة، ومرافقها المتعددة، وفرص العمل والتوظيف بها، ومجالات الاستثمار والنشاط فيها، بهويتها المعمارية، وخصائصها الهندسية، لإعمار الأقاليم في الولايات الفقيرة الجديدة، وفي المناطق الصناعية والزراعية الجديدة، وبالمناطق الحرة المتخصصة على الحدود الشرقية والجنوبية والغربية، وهذا أفضل بديل لإنجاز 2 مليون سكن.
فيكون التخطيط هنا مختلفا تماما، عن المرحل السابقة، التي توزعت فيه السكنات على المدن، وتوسعت أحياناً على حساب الأراضي الزراعية بالمناطق الشمالية، وتم توطين بعضها في الأوعية العقارية، من خلال سد الفراغات في المساحات الحيوية، المتبقية في المدن القديمة والقرى المحيطة بها.
ترشيد اعتمادات التحويلات الاجتماعية المتوقعة: 5872.4 مليار دينار جزائري، حوالي 43 مليار دولار، والتي تشكل 35% من اعتمادات ميزانية 2025، من خلال رقمنة وتدقيق الدعم المباشر، وتحيين بنك المعطيات الخاصة بالمستفيدين، ومراجعة وسائل التحكم في الدعم غير المباشر للحد من الاستحواذ على الدعم، أو تهريبه، أو تصديره، واعتماد أدوات جديدة مكملة من خارج الميزانية العامة، وتأتي في مقدمتها موارد القطاع الثالث الذي يضم موارد الأوقاف، والزكاة، والمؤسسات الخيرية.
إن ترشيد مخصصات الاعتمادات التحويلية، يعد في غاية الأهمية، لما سيترتب عنة من تحكم مرن في زيادة الطلب، واحتواء ارتفاع الأسعار، والتقليل من المخاطر التضخمية، والأمر الذي يستدعي استبدال نظام التراخيص الحالي في إدارة الواردات، الذي يكرس احتكار القلة لبعض المؤسسات الإنتاجية، على حساب احتياجات المستهلكين واختياراتهم الكمية، والنوعية، والسعرية، وضرورة استخدام الأدوات الاقتصادية الجديدة للانفتاح الذكي، للحد من أزمات العجز المزمن عن تغطية للاحتياجات الوطنية، وما يترتب عنه من مخاطر اجتماعية.
وتطوير وسائل مكافحة تضخيم فواتير الواردات، المتعلقة بالتكاليف، وتلك الخاصة بالنوعية، وما يترتب عنها من ارتفاع للأسعار المحلية، وأسعار مدخلات الإنتاج المستوردة، والأمر يستدعي تفعيل الدبلوماسية الاقتصادية، لعقد اتفاقيات تجارية، لمنع تصدير دول المنشأ للسلع والخدمات، التي لا تتطابق مع المواصفات والمقاييس الدولية، الاقتصادية، والصحية، والأخلاقية، ومنع تضخيم أسعارها ونوعيتها.
وكذلك الحد من ظاهرة الاستفادة من مزايا الصادرات خارج المحروقات وتهريب الدعم والتهريب عن طريق تصغير فواتيرها.
تطوير إيرادات غير تقليدية من خلال إقامة مؤسسة اقتصادية لاستقطاب الموارد الوقفية، وموارد الزكاة، والإعفاء الجديد الوارد في المادة 189 للأملاك الوقفية من كل الضرائب والحقوق والرسوم، يتطلب تفعيل مؤسسة الديوان الوطني للأوقاف والزكاة، والشروع في إنشاء هياكله التنظيمية الولائية، لقيامها بوظيفتها الاجتماعية، والتمويلية، والاقتصادية، بموارد حقيقية غير تضخمية من خارج الميزانية، وهي لا تقل عن 20 مليار دولار في المدى القصير والمتوسط.
ويمكن لمؤسسة الديوان الوطني للأوقاف والزكاة، أن تتولى إقامة أوقاف الحرمين، من خلال صندوق وقفي اقتصادي استثماري، يساهم في تخفيض تكاليف الحج، على غرار صندوق الحج الماليزي، الذي بلغت ودائعه 18 مليار دولار، ويساهم في تخفيض تكلفة الحج إلى النصف بالنسبة للمودعين فيه، والبالغ عددهم 9 ملايين مودع، وتقدر أصوله واستثماراته في الداخل والخارج بحوالي 60 مليار دولار.
زيادة مداخيل الأملاك التابعة للدولة، وخاصة المرتبطة بنظام الامتياز في الأراضي الفلاحية، حيث أصبحت ظاهرة الإجارة من الباطن للمستفيدين من نظام الامتياز تشكل تكلفة تتحمله الدولة والفلاح الحقيقي والمستهلك، فقد بلغ إيجار الهكتار الواحد من الباطن للأراضي الزراعية المخصصة لزراعات البيوت البلاستيكية 40 ضعفاً من قيمة الإيجار الرسمي، فكم تفقد الميزانية العامة سنويا؟.
ولهذا لابد من تغيير هذا النظام، واستبداله بعقود مزارعة مع الفلاح الفعلي، وترتبط بالمحاصيل المنتجة، وتقتطع حصة الدولة من المنبع، عند تسليم المحاصيل للديوان الوطني للحبوب. وكل الزراعات ترتبط بالعقود المناسبة لها.
فهذا الإجراء على سبيل المثال فقط، سيزيد مداخيل الدولة ويحقق مصلحة الفلاح والمستهلك، ويساهم في تحقيق الاكتفاء الغذائي، لأن الأمر يتعلق بحوالي 2 مليون هكتار.
تحريك موارد شركات التأمين وهيئات وصناديق الضمان الاجتماعي، وأموال الحسابات الخاصة للخزينة، ضمن الحركية الاستثمارية الداخلية للصكوك الاستثمارية، وخاصة قصيرة الأجل، والتي قد تتعلق بالمشتريات العامة، أو بصناديق استثمارية مهمة، فتزداد عوائد تلك الهيئات وستستغني تدريجا عن إعانات الدولة.
إنشاء صندوق سيادي مستدام، لتحقيق التوزيع المتوازن للثروة على الأجيال، وضمان الأمن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للدولة.
أستاذ دكتور بكلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير بجامعة فرحات عباس - سطيف