يقف الشعب الجزائري كل عام على جرح عميق أبى أن يندمل، ليذكر العالم أن من يطالبون اليوم بالحرية والعدالة والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان لم يكونوا في الماضي سوى سفاحين متعطشين للدماء، ولو كان تاريخهم كله نور لطمسته ذكرى مجازر 8 ماي 1945.
تلك المجازر التي أزالت مساحيق الحرية والعدالة على وجه المستعمر الفرنسي، وأكدت أن رفض أصحاب الأرض له طيلة 132 سنة كان نابعا من قناعاتهم أن من دخل بالقوة لا يمكن أن يكون حليفا ولا يجوز أن يبقى على هذه الأرض الطاهرة ولو كان الثمن ملايين الأرواح.
وفي وقت كانت أوروبا تحتفل بنشوة الانتصار الذي حققه الحلفاء على ألمانيا النازية، خرج الجزائريون يوم 8 ماي 1945 في مظاهرات سلمية بسطيف وقالمة وخراطة وغيرها من المدن، مطالبين فرنسا بالوفاء بوعودها باستقلال الجزائر بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.
لكن الردّ لم يكن سوى رصاصة غدر أطلقها جندي فرنسي لتُردي الشاب “سعال بوزيد” شهيدًا، وتحول المسيرات السلمية إلى جحيم دموي.
حدث أقام الدنيا ولم يقعدها في أوساط المتظاهرين، لتتدخّل بعدها الشرطة ورجال الدرك لإطلاق النار عشوائيا لتكون البداية قتلى وجرحى لجموع لا تحمل بين يديها سوى راية ترفض الانصهار في فلك المستعمر.
أحداث رفض المستعمر الهمجي أن يوقفها عند هذا الحد، لتندلع بعدها عملية التقتيل العشوائي والإعدامات الجماعية في عدة مدن كقالمة وسطيف وخراطة، وبلا هوادة لعدة أيام راح ضحيتها أكثر من 45.000 شهيد وآلاف الجرحى والمفقودين.
لتباشر بعدها قوات القمع عدة اعتقالات لزعماء “حركة أحباب البيان والحرية” و”جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” ومناضلي “حزب الشعب الجزائري” الذي تم حظره قبل هذه المأساة.
كل هذه الأحداث لم تشف غليل مستعمر ولم تشبع غريزته الدموية، وراح يشن عمليات اعتقال على آلاف المواطنين وإيداعهم السجون والمحتشدات بتهمة انتماءهم لمنظمات محظورة والقيام بالدعاية الوطنية.
بل وصلت وحشيته إلى درجة إصدار أحكام قضائية جائرة وصلت حد الإعدام، بالإضافة إلى الأشغال الشاقة مدى الحياة، الحِرمان من الحقوق المدنية، مُصادرة الأملاك، وفرض غرامات باهظة.
كانت خيبة ومأساة عظيمة تلقاها الجزائريون بما فيهم أولئك المجندون العائدون من جبهات القتال مع فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وأدركوا أن قتال النازيين مع فرنسا لن يجلب الاستقلال لأن من ارتكب هذه المجازر لا يمكن أن يمنحك حريتك “وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”.